مقدمـــــــــــــــة
ناموا ولا تستيقظوا….
يا قوم لا تتكلَّموا ~~ إن الكلام محرَّمُ
ناموا ولا تستيقظوا ~~ ما فاز إلاَّ النُّوَّمُ
وتأخَّروا عن كلِّ ما ~~ يَقضي بأن تتقدَّموا
ودَعُوا التفهُّم جانبًا ~~ فالخير ألاَّ تَفهموا
وتَثبتُّوا في جهلكم ~~ فالشرُّ أن تتعلَّموا
أما السياسة فاتركوا ~~ أبداً وإلاَّ تندموا
إن السياسة سرُّها ~~ لو تعلمون مُطلسَمُ
وإذا أفَضْتم في المبـاح من الحديث فجَمْجِموا
والعَدلَ لا تتوسَّموا ~~ والظلمَ لا تتجَّهمو
من شاء منكم أن يعيــش اليوم وهو مُكرَّمُ......
فليمُس لا سمع ولا ~~ بصر لديه ولا فمُ
لا يستحق كرامة ~~ إلا الأصم الأبكمُ
ودع السعادة إنما ~~ هي في الحياة توهُّمُ
فالعيش وهو منعٌّم ~~ كالعيش وهو مذمّمُ
وإذا ظُلمتم فاضحكوا ~~ طربًا ولا تتظلَّموا
وإذا أُهنتم فاشكروا ~~ وإذا لُطمتم فابسموا
إن قيل هذا شهدُكم ~~ مرٌّ فقولوا علقمُ
أو قيل إن نهاركم ~~ ليل فقولوا مظلمُ
أو قيل إن ثِمادكم ~~ سيل فقولوا مُفعمُ
أو قيل إن بلادكم ~~ يا قوم سوف تقسَّمُ
فتحمّدوا وتشكّروا ~~ وترنّحوا وترنّموا
بسم الله الرّحمن الرّحيم
"فإن مما لا شك فيه أن كثرة الفتن تزلزل كيان الناس، وأن فتيل الحروب إذا اشتعل عَسُرَ إطفاؤه، وأن التهويش والتشويش والقيل والقال والظن مما يزيد الأمر سوءاً وتعقيداً، والنار اشتعالاً واضطراماً، ولا جرم! فإن النار قد تذكى بالعيدان، كما أن في مبدأ الحرب كلام اللسان[1]
وقد شاهدت وشاهد غــيري الإضطراب الذي كان ولا زال في تصوّر مايجري في بلادنا "ليبيا" لدى بعض المفتين والمتصدرين، مما أدّى الى تشتت الأذهان ،والتراشق بالقيل والقال- فضلا عن الاعتداء على الأعراض والمال والدماء، مما زاد في أزمتها وفتنتها.
ومما يــحز في النفس، ويحترق له القلب، أن يكون هذا ممن ينسب إلى العلم وأهله
«قد غرز قدميه في بقعة التعالم!، لا يرى من يعشره!،مسروراً بما يُساء من اللبيب، يأنف من التجاسر على صرف المستفتي بلا جواب!!، فيتجاسر على القول على الله بلا علم ، ويفتي اجتراراً من معلومات عفى عنها الزمن، ولا يدري كيف يستلها من مطاوي الكتب، بانياً على الظن، والظن أكذب الحديث، بل تراه- وسبحان الفتاح العليم- يشرع في الجواب قبل استكمال السؤال، ويلتفت يميناً وشمالاً، ويحِف ويَرِف على الحضور مختالاً بجوابه الإنشائي المهزول، يفتي في وقت أضيق من بياض الميم، أو من صدر اللئيم ،بما يتوقف فيه شيوخ الإسلام وائمته الأعلام »[2]
إن الحوارات الشفهية، والمطارحات الورقية والاستفتاءات الشرعية، لا ينبغي أن تكون لكل راكب، ولا علكاً يلوكه الكل، وأمور النّاس بعامة لا ينبغي
أن يتصدى لها كل أحد كيفما اتفق، دون تمييز بين الغث والسمين، وبين ما يعقل وما لا يعقل، وإنه لمن المستكره أن يكون مقدار لسان الإنسان أو قلمه فاضلاً على مقدار علمه، ومقدار علمه فاضلاً على مقدار عقله!!
لقد زاد من غربة الإسلام اليوم فئام من الناس، وهم مع من يدّعون الإصلاح : يقولون ما لا يعملون، ويعملون ما لا يحسنون، يرصدون الزلة ولا يبصرون شوامخ الصواب!، ويتتبعون الهفوة ولا يرجون لمجتهد ثواباً!!؟
إنه وإن ولىّ زمان كان يُستحيى فيه من الجهل!، وأطلّ زمان احتاج فيه علماؤهُ ودعاته إلى أن يعتذروا مما عندهم من العلم إذا قاموا بحقه واجتهدوا في نشره وتبليغه للناس، كل ذلك حتى لا تتهم النوايا ، ولا تحمل على غير محاملها الطوايا!.
وكأني بهم يرددون مقالة الإمام ابن قتيبة الدينوري لمّا أخرج كتاباً استدرك فيه على (أستاذهِ) أبي عبيد القاسم بن سلام أسماه: (إصلاح الغلط في غريب الحديث لأبي عبيد) ، فقال رحمه الله بعد أن كثر عاذلوه، وتصدى له شانئوه ومبغضوه، فكان مما قاله :
« ... وقد كنا زماناً نعتذر من الجهل ، فقد صرنا الآن نحتاج إلى الاعتذار من العلم، وكنا نؤمل شكر الناس بالتنبيه والدلالة ، فصرنا نرضى بالسلامة ، وليس هذا بعجيب مع انقلاب الأحوال ، ولا يُنكر مع تغير الزمان، وفي الله خلف وهو المستعان »
إنه لسان حال كثير من دعاة الإسلام وعلمائه في ظل تكالب الأعداء ، وكيد الحساد ، وظلم ذوي القربى ، وتواطئ السواد على الصمت والرضى بالسلامة، ونقل الأخبار من غير توثيق أو تمحيص .
أناس أمِنّاهم فبثوا حديثنا ... فلما قصرنا السير عنهم تقوّلوا
وأسباب الخلل كثيرة،ولم يكن سببها استدلالاً بقولٍ مرجوح، فضلاً عن مذهب متروكٍ أو مهجور!، إنّما عدم معرفة "أصول الفتوى"، وقواعدها ومتطلباتها، هو سبب البلاء..
ورحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية القائل..:(( وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَصْلٌ ثَابِتٌ فَإِنَّهُ يُحرم الْوُصُولَ ؛ لِأَنَّهُ ضَيَّعَ الْأُصُولَ)) الفتاوى 13/ 160
فكم جرّت وغرّت وضرّت مثل هذه الفتاوى، حتى صُوّرت الكاذب صادقاً والصّادق كاذباً!!، والظالم مظلوماً والمظلوم ظالماً!،والمفسد مصلحاً والمصلح مفسداً!!..
إضافةً إلى الغمــز واللمز في النقدِ لبعض الدعاة والمفتين، ناهيك عن العمومات والإطلاقات!، دونما التعرض لما يحتاجه أهل تلك النازلة، مع إشغالهم عن حقيقة واجبهم، وأسباب الخروج من محنتهم!.
فمن هرف بما لا يعرف فهو ممن قال الله فيهم: ﴿ قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ﴾ [الذاريات:10] قال قتادة رحمه الله: (( هم أهل الظنون )) تفسير الطبري 22/ 400
وقد أخرج الإمام أحمد وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ﴿ إن أمام الدجال سنون خداعات، يكذب فيها الصادق، ويصدق فيها الكذوب، ويخون فيها الأمين، ويؤتمن فيها الخائن، ويتكلم الرويبضة.قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة ﴾.
حتى كانت مثل هذه الفتاوى «السلبية»! سبباً لظن ذاك «المارق»! أنّ بقاءه في سلطته حق إلهي!.. فلا للمستضعفين انتصروا، ولا للملاحدة كــسروا!.
وكان لها نصيب في تفشي البلاء ... من إراقة الدماء، وتصدّر البلهاء!..
وقد صدق محدث السنة وإمامها – الشيخ الألباني طيب الله ثراه حين قال ..:((كنا نعاني من الجمود فــصرنا نعاني من الفلتان))!.
ومقصودي من كتابة هذا الوريقات هــو تسليط الضوء على أزمة الفتوى، وإن شئت فقل "فتوة الأزمة"!- ذاكراً من خلالها قواعد كليّة، وأصولاً علمية ، متضمنة لما يجب أن يتسم به من أقحم نفسه في هذه المحنة، مفتياً ومستفتياً، ذاكراً مظاهر الخلل والاعوجاج، منبهاً على خطأ من قاس ما جرى "قديماً"! من بعض الجماعات المتطرفة! في بعض البلدان الإسلامية، منزلاً إياهُ على الأزمة الليبية..
إذِ «الموازنة في تقدير مصالح الأمم والشعوب فيما بينها، والموازنة في الحديث عن تعامل شعبٍ بعينه مع رئيس يحكمه بالظلم والقتل، وإدراك مخارج تلك المجتمعات من ثقوب الفرج الدقيقة مضايق صعبة، وهي من أكثر ما يجعل القلم يتوقف عن تخصيص مجتمع بعينه بحديث، خشية أن تزل أقدام شعوب مع زلة الأقلام، فتراق دماؤها بإراقة مداد أقلام تُشرِّع لها خلاصاً متوهماً، وأخطر ما تكون الأقلام والأقدام في هذه المواقف إذا صيرتها سكرة عقل مظلوم مكبوت رأى النصر في الشرق فيريد تنْزيله في الغرب، أو في بلد بعيد عنه، وهذا التنْزيل امتزج بهمٍّ أثقل الكاتب في بلده فأراد أن يجمعه مع قهر غيره الذي لم ير منه عُشره، أو ربما جهل الحال والمآل.. »[3]
ولعل قارئاً من القراء يستشكل ويستفسر عن كاتب هذا المقال، وعن اسمه ونسبه!، وعن سبب خفائه وإخفائه؟!..
فلا أجد جواباً أروع من قول الإمام محمد بن إبراهيم بن الوزير اليماني في كتابه .."إيثار الحق على الخلق.." ذاكراً الأسباب التي تحول بين ظهور الحق وبيانه، فقال ما نصه: ((خوف العارفين -مع قلتهم- من علماء السوء وسلاطين الجور وشياطين الخلق، وما زال الخوف مانعاً من إظهار الحق، ولا برح المحق عدواً لأكثر الخلق....))
« وبناءً على ذلك: فإني لا أُحِلُّ لمن لم يتشرّب قَلْبُه ودمُه وعظامُه الدعوةَ السلفيّةَ، القائمة على نَبْذِ التقليد = واعتماد الدليل أن يقرأ هذا البحث، فإنك لستَ محدِّثًا قومًا بحديثٍ لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة. وأي فتنةٍ أعظم من أن يُنتَصَرَ لظالم حرّف الفرقان ، وأعلن الحرب على كل المقدسات، وعلى كل الحرمات،كمم الأفواه، ووأدا الحريات، ونهب الثروات!..
أقول هذا كُلَّه، لشدّة ثقتي بصحّة ما توصّلتُ إليه، ولأني لم أترك سبيلاً من سُبُل التحرِّي والتثبّت –فيما أعلم- إلا وسلكته، وكَبَحتُ نفسي بالحِلم والأناة، حتى عزمت على نِشْر ما أثمره ذلك الجُهدُ والتدبُّر والاستدلالُ والتحلُّمُ والتأنّي.
وإن كنتُ (ولم أزل) أعلم من ضعف الإنسان وجهله ما يمكن معه أن يحيف الحيفَ العظيم، وهو يحسب أنه على الصراط المستقيم. لكن ماذا أعمل؟! والحقُّ أمامي أراه كالشمس، والأدلّةُ تتوارد تَتْرى على إحقاقه وإزهاق الباطل»[4]
فأسأل الله أن يريحنا من كل ذي شر، وأن يحفظ علينا ديننا، وأن يعصمنا بحبله المتين- إنّه جواد كريم.
حذر المفتين من أن يكونوا مطية للمتصيدين
من المتطلبات والمقررات التي يجب أن يضعها المُفتى بين عينيه: ما قرره الإمام أبو عمرو ابن الصّلاح بقوله: (( ليحذر أن يميل في فتياه مع المستفتي، أو مع خصمه، ووجوه الميل كثيرةٌُ لا تخفى!.. )). الفتوى واختلاف القولين والوجهين 220
وللأسف كم من الخلل الــذي حلّ ونزل بأهل "ليبيا" ، بسبب هذه الفتاوى في علاج نازلتهم..
فإنه مما هو مقرر في قواعد الشريعة أن (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) وأنّ (الحكم على الشيء فرع عن تصوره)، ولذا فعلى من يتصدر للحكم على الواقع، والخوض في غماره، أن يكون ملما بهذا الواقع، مدركاً لأسراره، عالماً بأصوله وفروعه، وإلاّ كان ما يفسد أكثر مما يصلح!..
قال شيخ الإسلام ابن القيم..: ((ذكر أبو عبد الله بن بطة في كتابه في "الخلع" عن الإمام أحمد أنه قال..: لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال..:
" أولها: أن تكون له نية ، فإن لم يكن له نية لم يكن عليه نور ولا على كلامه نور..
والثانية: أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة..
الثالثة: أن يكون قوياً على ما هو فيه وعلى معرفته..
الرابعة: الكفاية وإلاّ مضغهُ النّاس.
الخامسة: معرفة الناس.
وهذا مما يدل على جلالة أحمد ومحله من العلم والمعرفة، فإنّ هذه الخمسة هي دعائم الفتوى وأي شيء نقص منها ظهر الخلل في المفتي بحسبه.
ثم قال-((وأما قوله الخامسة: معرفة النّاس، فهذا أصل عظيم يحتاج إليه المفتي والحاكم. فإن لم يكن فقيها فيه، فقيها في الأمر والنهي،ثم يطبق أحدهما على الآخر، وإلاّ كان ما يفسد أكثر مما يصلح، فإنّه إذا لم يكن فقيها في الأمر، له معرفة بالناس تصور له الظالم بصورة المظلوم وعكسه، والمحق بصورة المبطل وعكسه وراج عليه المكر والخداع والاحتيال، وتصور له الزنديق في صورة الصديق، والكاذب في صورة الصادق، ولبس كل مبطل ثوب زور تحتها الإثم والكذب والفجور، وهو لجهله بالناس وأحوالهم وعوائدهم وعرفياتهم لا يميز هذا من هذا!، بل ينبغي له أن يكون فقيهاً في معرفة مكر الناس وخداعهم واحتيالهم وعوائدهم وعرفياتهم.)) «اعلام الموقعين[5]/ 205»
وعن هؤلاء يقول شيخ الإسلام ابن تيمية،بعد أن ذكر ما قصّه الله عن المنافقين بــقوله ﴿سمّاعون للكذب أكّالون للسحت﴾ «المائدة 42»
قال طيب الله ثراه :((وكذلك لو كان المتحاكم إلى الحاكم والعالم، من المنافقين الذين يتخيرون بين القبول من الكتاب والسنة، وبين ترك ذلك، لم يجب عليه الحكم بينهم. وهذا من حجة كثير من السلف الذين كانوا لا يحدثون المعلنين بالبدع بأحاديث النبي صلي الله عليه وسلم .))
ومن هذا الباب: من لا يكون قصده في استفتائه وحكومته الحق، بل غرضه من يوافقه على هواه، كائناً من كان، سواء كان صحيحاً أو باطلاً، فهذا سماع لغير ما بعث اللّه به رسوله، فإن اللّه إنما بعث رسوله بالهدى ودين الحق، فليس على خلفاء رسول اللّه أن يفتوه ويحكموا له، كما ليس عليهم أن يحكموا بين المنافقين والكافرين المستجيبين لقوم آخرين، لم يستجيبوا للّه ورسوله.)) «مجموع الفتاوى 28/ 198».
ومن المعلوم والمشهور" أن ّمن أعظم أساليب «تحريف النصوص»=«التلون» بما يبديه بعضهم من عبارات إجلال للنص الشرعي..
أو«التمسح بنصرة السنّة» و«التحكك بالانتساب إليها»[6]
فما أن تقع عيناه على سبيل يؤيد باطله فيما يزعم إلاّ طار ببثه ونشره - ولا أجد أبلغ من قول ذاك الشاعر...:
ذئب تراه مصليـاً ... فإذا مررت به ركــع
يدعو وجل دعائه ... ما للفريسة لا تقــع
وإذا الفريسة خليت ... ذهب التنسك والورع»[7]
وللأسف تمر هذه الأغاليط، وتروج هذه الأكاذيب، دونما حسيب أو رقيب!، فتجد ذاك المفتي يسترسل في إنزال الفتاوى والأحكام،
غاضاً الطرف، مولياً ظهره الحديث عن دماء الأبرياء.
وممّا لا شكّ فيه أن الفساد في "الطلب" منوطٌُ بالفسادِ في "القصد"!، وقد عبر الإمام ابن القيم الجوزية عن ذلك بأجمل تعبير، وسبكه بأروع تحريرٍ- فقال رحمه الله في كتابه العجاب-"مدارج السالكين 1/ 104": ((والتحقيق بـ﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾علماً ومعرفةً وعملاً وحالاً يتضمن الشفاء من مرض فساد القلب والقصد.
فإن فساد القصد يتعلق بالغايات والوسائل- فمن طلب غاية منقطعة مضمحلة فانية وتوسل إليها بأنواع الوسائل الموصلة إليها كان كلا نوعي قصده فاسداً، وهذا شأن كل من كان غاية مطلوبه غير الله وعبوديته من المشركين ومتبعي الشهوات الذين لا غاية لهم وراءها وأصحاب الرياسات المتبعين لإقامة رياستهم بأي طريق كان من حق أو باطل، فإذا جاء الحق معارضاً في طريق رياستهم طحنوه وداسوه بأرجلهم، فإن عجزوا عن ذلك دفعوه دفع الصائل، فإن عجزوا عن ذلك حبسوه في الطريق وحادوا عنه إلى طريق أخرى وهم مستعدون لدفعه بحسب الإمكان فإذا لم يجدوا منه بدا أعطوه السكة والخطبة وعزلوه عن التصرف والحكم والتنفيذ، وإن جاء الحق ناصرا لهم وكان لهم صالوا به وجالوا وأتوا إليه مذعنين لا لأنه حق بل لموافقته غرضهم وأهواءهم وانتصارهم به ﴿وإذا دُعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون﴾
والمقصود أن قصد هؤلاء فاسد في غاياتهم ووسائلهم وهؤلاء إذا بطلت الغايات التي طلبوها واضمحلت وفنيت حصلوا على أعظم الخسران والحسرات وهم أعظم الناس ندامة وتحسراً إذا حق الحق وبطل الباطل وتقطعت بهم أسباب الوصل التي كانت بينهم وتيقنوا انقطاعهم عن ركب الفلاح والسعادة،وهذا يظهر كثيرا في الدنيا ويظهر أقوى من ذلك عند الرحيل منها، والقدوم على الله ويشتد ظهوره وتحققه في البرزخ وينكشف كل الإنكشاف يوم اللقاء، إذا حقت الحقائق وفاز المحقون وخسر المبطلون وعلموا أنهم كانواكاذبين وكانوا مخدوعين مغرورين فياله هناك من علم لا ينفع عالمه ويقين لا ينجني مستيقنه.)).
ثم يأتي ذاك «المارق وزبانيته، فيصورون هــؤلاء الناس بأنهم ظلمة، وبأنّ «مارقهم» مظلوم، وبأن النّاس الذين قاموا عليه أهل سطوٍ وإجرام، وأنهّم «ليبراليون»! و«إخوان»!!.
شكونا إليهم خراب العراق ... فعابوا علينا شحوم البقر
فكانوا كما قيل فيما مضى ... أريها السها وتريني القمر
لقد (أراد هذا المتجبر أن يظلم الناس ولا يتظلّموا، وأن تبسط يداه فيهم بالضر والشر ولا يتكلّموا، وأن تكون آية الحق منسوخة لأجله، وأموال ومقدرات الشعب موطئاً لرجله..
لقد جاء بها شنعاء صلعاء ،ثم ماذا ؟ وأن يكون لأولئك المستضعفين المقهورين الذين أشقاهم بحكمه وغشه وظلمه، كجهنم لمن حلّ فيها .. يستغيثون فلا يغاثون..
وأراد أن يكون محامياً للدّين وظهيراً وولياً ونصيراً وكافلاً ومجيراً!!..
أصحيح أن هذا هو الذي يقوم بنصرة الإسلام وأهله!؟
وقد كنّا نعلم- أن الإسلام في جميع مواطنه تحيط به أخطار لا خطر واحد، وأن بعض أخطاره هذا الرجل وأمثاله..
وأن أكبر الأخطار وأعظمها ما التجأ إليه هذا الرجل من أنواع الحماية، باسم "الدّين" و "السلفية"!، فهل جدّ في الاكتشافات الطبية أن يكون "السرطان" دواءً "للسل"؟ وهل جدّ في القوانين الاجتماعية أن يكون "حاميها حراميها" كما يقول المثل الشرقي؟")
قال الفضيل بن عياض يرحمه الله.. ((يا مسكين، أنت مسيءٌ وترى أنّك محسن، وأنت جاهل وترى أنك عالم، وتبخل وترى أنك كريم، وأحمق وترى أنك عاقل، أجلك قصير، وأملك طويل. ))
قال الإمام الذهبي معلقا.. (( قلت: إي والله، صدق، وأنت ظالم وترى أنك مظلوم، وآكلٌُ للحرام وترى أنك متورع، وفاسق وتعتقد أنك عدل، وطالب العلم للدنيا وترى أنك تطلبه لله. )) السير 8/ 440
وليحذر من يقف لنصرتهم أو يؤيد شيئاً من باطلهم ، أن يكون له نصيب من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ﴿يكون أمراء تغشاهم غواش أو حواش من الناس، يكذبون ويظلمون،فمن دخل عليهم فصدَّقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليس مني ولست منه، ومن لم يدخل عليهم ولم يصدِّقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه﴾ "صحيح الترغيب 2247".
(لهذا فإنني أخشى أن يكون من شارك في إعلام الطاغية الليبي ممَّن صدَّقه بكذبه وأعانه على ظلمه؛ والعياذ بالله تعالى. والواجب على من يريد نصيحة الثوار بما فيه إخماد الفتنة وحقن الدماء: أن يتوجه إليهم بالنصيحة من خلال وسائل الإعلام التي لا صلة لها بنظام القذافي، فيسلم من الوعيد المذكور في الحديث، ويكون كلامه أبلغ تأثيرًا، وأحسن عاقبة، وأجدر بالقبول)[8]
وقد نقل الإمام ابن مفلح في كتابه "الفروع 6/ 453" عن المروذي أنه قال..:(( لما حبس الإمام أحمد رحمه الله قال له السجّان: يا أبا عبد الله الحديث الذي يروى في الظلمة وأعوانهم صحيح؟ قال: نعم فقال: فأنا منهم؟ قال أحمد: أعوانهم من أخذ شعرك ويغسل ثوبك ويصلح طعامك ويبيع ويشتري منك، فأما أنت فمن أنفسهم)).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتاب "الإيمان الكبير - (1 / 34)" : وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ السَّلَفِ: أَعْوَانُ الظَّلَمَةِ مَنْ أَعَانَهُمْ وَلَوْ أَنَّهُ لَاقَ لَهُمْ دَوَاةً أَوْ بَرَى لَهُمْ قَلَمًا.
وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَقُولُ: بَلْ مَنْ يَغْسِلُ ثِيَابَهُمْ مِنْ أَعْوَانِهِمْ.
وَأَعْوَانُهُمْ: هُمْ مِنْ أَزْوَاجِهِمْ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَةِ.
فَإِنَّ الْمُعِينَ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ، وَالْمُعِينَ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ . قَالَ تَعَالَى: { مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا } وَالشَّافِعُ الَّذِي يُعِينُ غَيْرَهُ فَيَصِيرَ مَعَهُ شَفْعًا بَعْدَ أَنْ كَانَ وِتْرًا ؛ وَلِهَذَا فُسِّرَتْ " الشَّفَاعَةُ الْحَسَنَةُ " بِإِعَانَةِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْجِهَادِ، وَالشَّفَاعَةُ السَّيِّئَةُ بِإِعَانَةِ الْكُفَّارِ عَلَى قِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو سُلَيْمَانَ)).
فهذا التقييد مما أحتسبه عند الله تعالى، وأحسبه يقيناً من أداء "الأمانة العلمية"، واحترام العهد الــذي أخذه الله على عباده-﴿إنّ العهد كان مــسؤلاً﴾
ومساهمةً في كــشف "تــحريف"! و "ألاعيب"!! الــمبطلين الجاهلين.
ولــيستقر في عقولنا ولينقش على صــدورنا تلك المقولة الذهبية من شيخ الإسلام ابن تيمية – وهي قوله رحمه الله:(( ولهذا قيل: إنّ الله يقيم الدولة العادلة وان كانت كافرة، ولا يقيم الظالمة وان كانت مسلمة– ويقال:(( الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والاسلام))
وقوله أيضاً:((وذلك ان العدل نظام كل شيء، فإذا اقيم أمر الدنيا بالعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الأخرة من خلاق- ومتى لم تقم بالعدل لم تقم وان كان لصاحبها من الايمان ما يجزي به في الاخرة.)) "الإستقامة 2/ 247"
هذا ما أردت بيانه وإيضاحه ولو كتمته لخشيت أن أكون في ركابهم، فاللهمّ إنّا نبرأ إليك مما فعل هــؤلاء.
وهــذا شاهد لبرءاتنا من فعلاتهم..
﴿ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا إنك على كل شيىء قدير﴾
أمـــين
﴿ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم،إنّ الله لا يحبّ من كان خواناً أثيماً﴾.
واللبيب تكفيه الإشارة!.
هدم الكليات ومعارضتها ببعض الجزئيات!
إن الأصول الكلية في الإسلام هي أصول الديانة، والضروريات هي التي أمر الله عز وجل بحفظها، وهي خمس..:
الدّين
والعقل
والمال
والنفس
والعرض
وهي أهم ما ينبغي حفظه وصونه، وإظهار حكم الله فيه، وقد أمر الله بحفظها وصيانتها من التبديل والتحريف، وهي مهمة العلماء القائمين بأمر الله.
وعند تزاحم الواجبات يجب على المفتي تقديم أعلاها على أدناها، ولا سيما الضروريات الخمس ..
فمن الناس من لا يعرف من الإسلام علماً وعملاً ودعوة إلا مجموعة من الجزئيات جعلها مصادمةً للكليات الضروريات .
ومن وصل إلى القاعدة الكلية استطاع أن ينّزل على مقتضاها كل الجزئيات التي قد تخالف بظاهرها هذه القاعدة ..
يا إخواننا إنّه ليس كل من لبس عباءة، أو كوّر عمامةً، أو نال شهادةً، أو أمّ مسجداً أو ألف مؤلفاً، أو عمل مدرساً، أو أبلغ في موعظة؛ يُعد شيخ الإسلام ومفتي الأنام، يحكم في العقائد والرقاب والأموال والأعراض، وكأن الأمر شربة ماء!.
أما علم هؤلاء أن الجرأة على الفتوى جرأة على النار، وأن التجاسر عليها اقتحام لجراثيم جهنم، عياذاً بالله عياذاً، بل لقد وصل الحال ببعض العامة إلى أن يفتي بعضهم بعضاً، والله عز وجل يقول: ﴿فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل:43].
والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: ﴿هلا سألوا إذا لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال﴾. لقد أصبح الحديث في علوم الشريعة بضاعة كل متعالم مأهول، حتى ساموا باعة البقول عدداً، وتكلم كثير من الرويبضة، واستطالوا على منازل العلماء ومقامات العظماء والفقهاء، وعمد بعضهم إلى أمور من الثوابت والمبادئ، وجعلوها عرضة للتغيير والتبديل، بحجة التنوير والتطوير..
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : « لا بد أن يكون مع الإنسان أصول كلية تُرَدُّ إليه الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل، ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت؛ وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات ،وظلم وجهل في الكليات ، فيتولد فساد عظيم ».الفتاوى 19/203
يقول الشاطبي"رحمه الله" : « وهذا الموضع كثير الفائدة عظيم النفع بالنسبة إلى المتمسك بالكليات إذا عارضتها الجزئيات وقضايا الأعيان ، فإنه إذا تمسك بالكلي كان له الخيرة في الجزئي ، في حمله على وجوه كثيرة )) "الموافقات 4/ 12".
وقد ظهر الخلل في بعض المفتين والمتكلمين واضحاً جلياً في هذه النازلة!، فترى أحدهم يتكلم بالساعات حول "المظاهرات"، مدعياً تفنيد قول من رأى مشروعيتها، ناسياً ومتناسياً حال تلك الدماء- التي تسفك وتسيل ليل نهار، وكان يكفيه أن يكتفي في استدلاله بإحالته على بيان أو مقال لهيئة علمية.
وآخر يغرق نفسه!، ويشغل عقله وفكره! في الكلام على من سقطوا تحت رصاص هذا المجرم، مستغرباً!= ومستفسراً و في الوقت نفسه ="مفتياً"!! ، هل تشملهم أحكام الشهداء على (خلاف)! في ذلك من "تغسيل" أو تكفين" أو صلاة!.فأصبحوا كما قيل :(أراد أن يبني قصراً فهدم مصراً!)
وهذا إن دلّ فإنما يدل على مقدار الضعف العلمي والوازع الديني لدى هؤلاء!، الذين رأوا دماء الأبرياء تسفك فلم يطببوهم ، ورأوا أعراضهم تنهك فلم ينصروهم، ورأوا أموالهم تنهب فلم يعينوهم!، ورأوا الأرواح تزهق فلم يستشعروهم!.
قال الإمام القرافي : (( ومن جعلَ يُخْرِج الفروع بالمناسبات الجزئية دون القواعد الكلية تناقضت عليه الفروع واختلفت، وتزلزلت خواطره فيها واضطربت!)) "الفروق 1/ 3"
إنّ الحديث عن المظاهرات ليس من الأهمية بقدر الحديث عن سبل وطرق حقن دماء الأبرياء، وإنّ التوسع الحاصل هو إشغال للناس عن حفظ الضروريات.
ناهيك أنّ الأمر أصبح أكبر من قضية (مظاهرة)!، أو حمل صورة، أو طلب (حرية)!، أو مناشدة بـ"ديمقراطية"!..
ورحم الله شيخ الإسلام..:(( وقد قيل إنما يفسد الناس نصف متكلم، ونصف فقيه، ونصف نحوي، ونصف طبيب؛ هذا يفسد الأديان، وهذا يفسد البلدان، وهذا يفسد اللسان، وهذا يفسد الأبدان)) "الرد على البكري 2/ 730 ".
فواغوثاه بالله- من الملتصقين بالعلم وهم ليسو من أهله!!.
التفصيل والتبيين
من المعروف والمتقرر في حق المفتي أنّه متى وجب عليه الجواب: أن يبينه بياناً مزيحاً للإشكال.
يقول الإمام ابن القيم يرحمه الله:- (( لا يجوز للمفتي الترويج، وتخيير السائل وإلقاؤه في الإشكال والحيرة، بل عليه أن يبين بيانا مزيلاٍ للإشكال متضمناً لفصل الخطاب،كافيا في حصول المقصود لا يحتاج معه إلى غيره. ))
فما اشتملت عليه فتاوى بعض المفتين من معاريض واختصارً فيما يحدث في "ليبيا"، لم يستفد منها أهل البلاد شيئاً، بل جعلتهم "يتلكعون"، وفي مكانهم "جامدون" أبعدتهم أكثر وأكثر عن كيفية تشخيص أزمتهم!، والخروج من محنتهم، فلا أقاموا لهم ديناً، ولا أبقوا لهم دنيا.
ومن المقرر ((أن كل ما وجب بيانه، فالتعريض والإيهام فيه حرام؛ لأنه كتمان وتدليس ))كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -"بيان الدليل في بطلان التحليل 147".
سوء الفهم لأحاديث اعتزال الفتن..:
وأرى من المهم في هذه المناسبة أن أتحدث على قضية اتسع فيها الخرق وعمّ فيها سوء الفهم، وهي: العمل بأحاديث «اعتزال الفتن»، التي وصل البعض في فهم أحاديثها إلى العزلة "التامة"، من عدم حضور الصلوات في الجماعات! والتوقف في إعانة المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها بالطعام والدواء واللباس!.
ومن العجب أن يدعي مدع ذلك لنفسه، ثم تراه شاهراً سيفه مُخَطِّئاً تارةً، ومستنكراً أخرى!!، بل قد يصل به الحال إلى أن يكون "مضللاً"! و"مبدعاً"!.
قال الإمام محمّد بن جريرٍ الطبري رحمه الله: لو كان الواجب في كل اختلاف يكون بين الفريقين الهرب منه ولزوم المنازل لما أقيم حد ولا أبطل باطل ، ولوجد أهل النفاق والفجور سبيلا إلى استحلال كل ما حرم الله عليهم من أموال المسلمين وسبي نسائهم وسفك دمائهم ، بأن يتحزبوا عليهم ، ويكف المسلمون أيديهم عنهم )) "الجامع لأحكام القرأن 16/ 268" للقرطبي.
وقال أيضاً: ((وَالصَّوَاب أَنْ يُقَال إِنَّ الْفِتْنَة أَصْلهَا الِابْتِلَاء، وَإِنْكَار الْمُنْكَر وَاجِب عَلَى كُلّ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، فَمَنْ أَعَانَ الْمُحِقّ أَصَابَ، وَمَنْ أَعَانَ الْمُخْطِئ أَخْطَأَ، وَإِنْ أَشْكَلَ الْأَمْر فَهِيَ الْحَالَة الَّتِي وَرَدَ النَّهْي عَنْ الْقِتَال فِيهَا)) «نقله صاحب الفتح 13/ 35 ».
قال الحافظ ابن حجر: (( وذهب جمهور الصحابة والتابعين إلى وجوب نصر الحق وقتال الباغين، وحمل هؤلاء الأحاديث الواردة في ذلك على من ضعف عن القتال، أو قصر نظره عن معرفة صاحب الحق))."فتح الباري 13/ 37"- وينظر أيضاً"13/ 46".
وهنا كلام لسماحة الشيخ الإمام عبد العزيز بن باز أنقله بطوله لنفاسته- قال رحمه الله: (( أما ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الفتن والقعود عنها فمعروف عند أهل العلم، وتفصيل ذلك فيما يلي :
يقول النبي صلى الله عليه وسلم : « إنها ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم والقائم خير من الماشي والماشي خير من الساعي ، من يستشرف لها تستشرفه فمن استطاع أن يعوذ بملجأ أو معاذ فليفعل » هذه الفتنة هي الفتن التي لا يظهر وجهها ولا يعلم طريق الحق فيها بل هي ملتبسة ، فهذه يجتنبها المؤمن ويبتعد عنها بأي ملجأ ، ومن هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم : « يوشك أن يكون خير مال المرء المسلم غنماً يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر ، يفر بدينه من الفتن » أخرجه البخاري في الصحيح.
ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل : « أي الناس أفضل ؟ قال : مؤمن مجاهد في سبيل الله ، قيل: ثم ؟ قال : مؤمن في شعب من الشعاب يعبد الله ويدع الناس من شره » فالمقصود أن هذا عند خفاء الأمور وعند خوف المؤمن على نفسه يجتنبها، أما إذا ظهر له الظالم من المظلوم والمبطل من المحق فالواجب أن يكون مع المحق ومع المظلوم ضد الظالم وضد المبطل، كما قال صلى الله عليه وسلم : « انصر أخاك ظالما أو مظلوما قيل يا رسول الله كيف أنصره ظالما ؟ قال تحجزه عن الظلم فذلك نصره »أي منعه من الظلم هو النصر.
ولما وقعت الفتنة في عهد الصحابة رضي الله عنهم، اشتبهت على بعض الناس وتأخر عن المشاركة فيها بعض الصحابة ؛ من أجل أحاديث الفتن ، كسعد بن أبي وقاص ، ومحمد بن مسلمة ، وجماعة رضي الله عنهم ، ولكن فقهاء الصحابة الذين كان لهم من العلم ما هو أكمل قاتلوا مع علي ؛ لأنه أولى الطائفتين بالحق ، وناصروه ضد الخوارج ، وضد البغاة الذين هم من أهل الشام ؛ لما عرفوا الحق ، وأن عليا مظلوم ، وأن الواجب أن ينصر ، وأنه هو الإمام الذي يجب أن يتبع، وأن معاوية ومن معه بغوا عليه بشبهة قتل عثمان . والله جل وعلا يقول في كتابه العظيم: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي﴾ ما قال فاعتزلوا ؛ قال : ﴿فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ فإذا عرف الظالم وجب أن يساعد المظلوم لقوله سبحانه: ﴿فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ﴾ والباغون في عهد الصحابة معاوية وأصحابه والمعتدلة علي وأصحابه فبهذا نصرهم أعيان الصحابة نصروا عليا وصاروا معه كما هو معلوم . وقال في هذا المعنى صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح في قصة الخوارج : « تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين تقتلهم أولى الطائفتين بالحق » فقتلهم علي وأصحابه وهم أولى الطائفتين بالحق . وقال صلى الله عليه وسلم في حديث عمار : « تقتل عمارا الفئة الباغية » فقتله معاوية وأصحابه في وقعة صفين .............
فكل فتنة تقع على يد أي إنسان من المسلمين أو من المبتدعة أو من الكفار ينظر فيها، فيكون المؤمن مع المحق ومع المظلوم ضد الظالم وضد المبطل ، وبهذا ينصر الحق وتستقيم أمور المسلمين ، وبذلك يرتدع الظالم عن ظلمه ، ويعلم طالب الحق أن الواجب التعاون على البر والتقوى وعدم التعاون على الإثم والعدوان ؛ عملا بقول الله سبحانه : ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ فقتال الباغي وقتال الكافر الذي قام ضد المسلمين، وقتال من يتعدى على المسلمين لظلمه وكفره حق وبر ونصر للمظلوم وردع للظالم، فقتال المسلمين لصدام وأشباهه من البر ومن الهدى، ويجب أن يبذلوا كل ما يستطيعونه في قتاله، وأن يستعينوا بأي جهة يرون أنها تنفع وتعين في ردع الظالم وكبح جماحه والقضاء عليه وتخليص المسلمين من شره، ولا يجوز للمسلمين أيضا أن يتخلوا عن المظلومين ويدعوهم للظالم يلعب بهم بأي وجه من الوجوه بل يجب أن يردع الظالم وأن ينصر المظلوم في القليل والكثير..)) مجموع فتاوى ومقالات -6/ 75- 76 .
وقال فضيلة الشيخ عبد الكريم بن عبد الله الخضيرحفظه الله: ((.. ابن عمر ترجح عنده أن يعتزل؛ لأنه قتال بين المسلمين وعلى ملك على الدنيا, هذا فيما ظهر لابن عمر وظهر لسعد بن أبي وقاص، وفي العزلة مندوحة.
لكن إذا ظهر رجحان الكفة وترجح الحق مع طائفة، وإن كانت الطائفة الأخرى نصيبها من الحق أقل- مما يسمونه في عرف الشرع الطائفة المرجوحة (عمار تقتله الفئة الباغية), إذا ترجح عندك بحيث لا يحصل عندك أدنى شك أن الحق مع فلان هل يسوغ للناس أن يعتزلوا ويترك الناس يتطاحنون ويتقاتلون؟ لا.............................
لا بدّ من نصر من رجحت كفته وإلا لو ترك الأمر بين الناس يقتتلون وكل واحد قال أني أعتزل الفتنة تزداد الفتن ولا ينقطع دابر الشر)) من دروس "شرح كتاب الفتن من صحيح البخاري".
فتلخص مما تقدم أنّ الفتنة التي تعتزل هي التي لم يتبين فيها الحق من الباطل، وأن نصرة المظلوم واجبة مؤكدة..
ويجب أن يعلم أن من جميل تقريرات شيخ الإسلام ابن تيمية قوله..: فَاخْتِيَارُ الْمُخَالَطَةِ مُطْلَقًا خَطَأٌ وَاخْتِيَارُ الِانْفِرَادِ مُطْلَقًا خَطَأٌ. وَأَمَّا مِقْدَارُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ كُلُّ إنْسَانٍ مِنْ هَذا وَهَذَا وَمَا هُوَ الْأَصْلَحُ لَهُ فِي كُلِّ حَالٍ فَهَذَا يَحْتَاجُ إلَى نَظَرٍ خَاصٍّ كَمَا تَقَدَّمَ".. مجموع الفتاوى لابن تيمية (10 / 427)
فمن راى قصوراً من نفسه أداه فهمه وعلمه إلى أن يعتزل فهذا حاله كما قال الله تعالى: ﴿بل الإنسان على نفسه بصيراً ﴾ ، وكما قيل (( قد أفلح من انتهى إلى ما سمع)).
وأن القتال المحرم هو قتال الفتنة الذي لم يتبين فيه الحق من الباطل والظالم من المظلوم، فلو جئنا إلى أرض الواقع ناظرين ومتأملين إلى الدّاعي الذي حمل كتائب القذافي إلى أن يقاتلوا لن تجدهم إلاّ لتمكين هذا (المعتوه) من جبروته واستمراره في حكمه..
"والقذافي وكتائبه على باطل باتفاق العالم والعلماء ولا يوجد معهم تأويل معتبر ، ولم يفت عالم معتبر بالقتال معهم ، بل العلماء مجمعون على أن القتال معهم حرام فأين الفتنة ؟
وكما يقول شيخ الإسلام :
" التأويل السائغ هو الجائز الذى يقر صاحبه عليه إذا لم يكن فيه جواب، كتأويل العلماء المتنازعين فى موارد الاجتهاد " ا.هـ
وليس القتال مع القذافي معتبرا بوجه من الوجوه باتفاق العلماء المعاصرين اليوم على اختلاف مدارسهم .
وكيف يكون القتال معه معتبرا وهو كافر عند أكثر العلماء !
كيف ومعه مرتزقة كفار وآخرون مجرمون ! ؟
كيف وهو يقاتل فقط لاسترجاع حكمه الكفري المصادم للإسلام !؟
كيف وهو يقتل المسلمين الذين يقطنون في المدن المعارضة من رجال وأطفال ونساء دون تفريق بين من يحمل السلاح ومن لا يحمله؟ !
بالله عليكم ! هل قتال مَنْ كان هذا حاله هو قتال فتنة ؟!!
أي فقه هذا ؟! وفي أي كتب الفقه يصدق هذا الوصف ؟!
أنا أطالب المخالف لنا أن يُعرِّف لنا قتالَ الفتنة من كتب أهل العلم ، ثم يبين لنا من خلال واقع القذافي وكتائبه موافقة قتالهم لذلك التعريف ؟!
أما إلقاء التوصيفات هكذا جزافا فهو الفتنة والله ؟
بل حتى ولو كان كل من الطائفتين له تأويل معتبر فهذا لا يعني ترك القتال وأنه قتال فتنة عند كثير من السلف ، يقول القاضي عياض :
" وكافة من لم ير الدخول فى الفتنة من الصحابة والتابعين يرى المدافعة ، وهو مذهب ابن عمر وعمران بن حصين وغيرهما .
فهذان مذهبان لمن رأى القعود فى جميع فتن الإسلام ، لما ورد من النهى عن الدخول فيها .
وذهب معظم الصحابة والتابعين إلى نصر الحق فى فتن المسلمين ، والقيام معه كما أمر الله به[ فى البغاة] (2) بقوله : { وَإِن طَائِمانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} الاَية " ا.هـ
من كتابه إكمال المعلم .
وكما قلت ، هذا إذا كان كلا الطائفتين متأولتين تأويلا معتبرا فكيف الأمر مع كتائب القذافي المجرمة التي لا تأويل معتبر لديها بل هي مبطلة باتفاق العالم بسياسييه وعلمائه"[9]
وهنا سؤال يلح بطرح نفسه..: كيف يستطيع "السلفيون" إقامة دولة مسلمة، أو تقليل شر ما- في زمان يطبقون فيه أحاديث اعتزال الفتن..؟
فمن المهمات: أن نكون واعين ومتذكرين بأنّ "الإصلاح الديني لا يتمّ إلا بالإصلاح الاجتماعي".
وعن هذا يقول الشيخ المصلح محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله (( ويا ويح الجاهلين، أيريدون من كلمة الإصلاح أن نقول للمسلم قل: لا إله إلاّ الله مذعناً طائعاً، وصل لربك أواهاً خاشعاً، وصم له مبتهلاً ضارعاً، وحج بيت الله أواباً راجعاً، ثم كن ما شئت نهبة للناهب، وغنيمة للغاصب، ومطية ذلولاً للراكب، إنْ كان هذا ما يريدون فلا ولا قرة عين ، وإنّما نقول للمسلم إذا فصَّلنا: كن رجلاً عزيزاً قويا عالماً هادياً محسناً كسوباً معطياً من نفسك آخذاً لها عارفاً بالحياة سباقاً في ميادينها، صادقاً صابراً هيّناً إذا أريد منك الخير، صلباً إذا أُردت على الشر..
ونقول له إذا أجملنا: كن مسلماً كما يريد القرآن منك وكفى.. " آثار محمد البشير 1/ 283"
﴿وسيعلم الذين ظلموا أي منقلبِ ينقلبون﴾
مــــن هــو الفقيــــه الحــــق؟
من السهولة على كثير من الناس معرفة الخير والشر، فإن الفرق بينهما واضح لكل ذي فطرة سليمة ،بل إن اتباع الخير أيسر على النفس من تعمّد الشر، ولكن معرفة خير الخيرين واتباع أعلاهما، ومعرفة شر الشرين والسكوت أو الاضطرار لفعل أدناهما دفعاً لأعلاهما، فهذا هو الفقه الدقيق الذي يحتاجه المسلم، خاصة إذا كثر الدَّخَن، واضطربت المفاهيم، وكثرت الاجتهادات دون علم ينيرالطريق ويوضح المحجة ..
قد قال شيخ الإسلام رحمه الله: ((تمام الورع أن يعلم الإنسان خير الخيرين ، وشر الشرَّين )) "10 / 512 ".
وقال أيضاً.. (( الغالب أنه لا يوجد كامل، فيُفعل خير الخيرين، ويدفع شر الشرين؛ ولهذا كان عمر بن الخطاب يقول: "أشكو إليك جلد الفاجر وعجز الثقة"، وقد كان النبي وأصحابه يفرحون بانتصار الروم والنصارى على المجوس -وكلاهما كافر-، لأن أحد الصنفين أقرب إلى الإسلام، وأنزل الله في ذلك (سورة الروم) لما اقتتلت الروم وفارس ، والقصة مشهورة. وكذلك يوسف، كان نائباً لفرعون مصر -وهو وقومه مشركون- وفعل من العدل والخير ما قدر عليه، ودعاهم إلى الإيمان بحسب الإمكان )) "الفتاوى 28/ 68
وتقدير المصالح والمفاسد ليس أمراً هيناً ، بل هو في غاية الدقة؛ لأنّه منضبط بضوابط الشرع ونصوصه وقواعده، وليس مجالاً لخوض الخائضين أو عبث العابثين، أو تخرّص المتخرصين، ولا يصلح أن يقوم به إلا أهل العلم الأثبات، الذين عرفوا نصوص الكتاب والسنة، ودرسوا مقاصد الشريعة، وميّزوا بين الأولويات والأحكام..
وكثير هم أهل العلم الذين تميزوا في تأصيل هذا الأصل العظيم، وفي نظري أن أقواهم وأقعدهم وأضبطَهم: هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقد ضرب فيه بسهم وافر..
وللأسف "وصل الأمر إلى تسليط الضوء على نازلتنا عند مواقف فردية تتعلق ببعض المواطنين إما (رفع صورة) أو (قول كلمة) أو (صياغة إنشوذة)! ؟!
يا إخواننا لماذا تنطلقون في الكلام عن نازلتنا مِنْ تجاهل عامة المعطيات الأساسية والجوهرية؟!
فالشعب الليبي ستة ملايين، ولن يخلو الأمر من صدور مواقف كثيرة فردية تخالف الشرع وتستنكر!.
يا إخواننا هذه طريقة لا تنم عن واقعية في التعامل مع ما يعانيه الليبيون .
الذي شاهد من ينادي بالديمقراطية ، ألم يشاهد المقاتلين للقذافي وفيهم ملتحون سلفيون ؟
ألم يشاهد تبني المسؤولين في "المجلس الانتقالي"، للإسلام وتبنيهم للمقاتلين الملتحين ؟
ألم نشاهد الشعارات الدينية المرفوعة ؟
يا إخواننا ما هكذا تورد الإبل[10]
ومما يؤسف أكثر، أن يخرج من يفتي بوجوب القتال مع هذا النّظام، أو من يصرح بأن القتال أو الوقوف مع القذافي أفضل من الوقوف مع الثوار، بداعي أنهم من "الإخوان المسلمون"!!..
ولي وقفات مع هذا التصورات السمجة!.
وقبل أن أبدأ حديثي .. أقول..: إنّ موقفنا من جماعة "الإخوان المسلمون " أو غيرهم هو موقف مشايخنا وعلمائنا – أمثال ابن باز والألباني وابن عثيمين ومقبل بن هادي، رحم الله الجميع، مبنية على العلم والعدل، لا على الجهل والظلم فلا أزيد..
وأنّ الحكم على جميعهم بأنهم "إخوان"، أو سمِّهم ما شئت، ضرب من الخيال، ومحض تقولٍ وافتراء..
ومما ينبغي أن يعيه ويستوعبه من أراد التفضيل في الأشخاص أو الفئات عدة أمور، منها:
1- أن مجرد التفضيل ليس عيباً ولا سبّاً كما في "الصارم المسلول 1/ 581"- فهم بتفضيلهم هذا لا يسيئون للقذافي!!.
2-أن "التفضيل في الكمال، لا يكون إلاّ باشتراك" كما في "بيان تلبيس الجهمية 2/ 288" ولا أظن أن للقذافي كمالاً به يذكر، بخلاف الإخوان المسلمين فلهم ما لهم، وعليهم ما عليهم.
3- أنّ (التفضيل لا يكون إلاّ بالمجموع) كما في "منهاج السنة 7/ 95". وأي مجموع من "الفضائل" للقذافي كان أو سيكون! ؟، هل بـاستهزائه بالشريعة الغراء.؟ أم بقتل الأبرياء وترهيب الضعفاء، ووضعهم في السجون لسنوات وسنوات!.
4-(أن التفضيل الجملة على الجملة، لا يقتضي تفضيل فرد على فرد)، كما في منهاج السنة 2/ 291". فما أدري كيف سنفاضل.؟. وأنّ التوجهات والتصورات غير مشتركة ولا متوافقة فضلاً على أن تكون متألفة!!.
فقد رأينا وقابلنا وعرفنا (بعضاً) من "الإخوان المسلمون" ممن يتبنى العقيدة السلفية، ومن هو صوّام قوّام، عفيف اللسان طيب الجناح.
لكن هل سبق لأي (ليبيٍ)! أن رأى من يتبنى أفكار من يسمون "اللجان الثورية"!، فيه خصلة واحدةٌ من هذه الخصال؟!
ولما سئل معالي الشيخ صالح اللحيدان أمدّ الله في عمره على طاعته عن "المقارنة" بين "الإخوان المسلمون"و "القذافي" أجاب قائلاً..:" لا شك هم أرحم من القذافي"..
والعجب أن يخرج علينا أحدهم فيقول بكفر القذافي من غابر السنوات! ثم يردف قائلاً: (الإخوان المسلمون أشرُ منه!)- فهل نفهم يا هذا! أنّك تكفر الإخوان المسلمين "عموماً" أو "أعياناً"..؟
ولله در الإمام أبي محمد بن حزم حين قال:(( وأما من طبع على الجور واستسهاله، وعلى الظلم واستخفافه- فلييأس من أن يصلح نفسه، أو يقوِّم طباعه أبداً، وليعلم أنّه لا يفلح في دين ولا في خلقٍ محمود))."الأخلاق والسير 37".
ورحم الله شيخ الإسلام القائل: ( أكثر الناس يتكلمون فيه "أي التفضيل" بالظن وما تهوى الأنفس!) كما في "الفتاوى 20/ 291"
ثمّ لو سلمنا جدلاً أنهم كانوا ممن ذكروا، فهل يجوز لنا أن نؤيد من ظلمهم..؟!!
لقد ساء الشيخ الألباني ما حصل وحدث للإخوان المسلمون في "حماة" السورية، تحت يدي المسمى "حافظ الأسد" لا رحم الله فيه مغرز إبرة! وكان الشيخ الألباني رحمه الله يقص ذلك بكامل "الغصّة والحسرة!، ووجدوا ملجئاً ومعاذاً حينها عند الدولة السعودية!.
ويجب ألاّ ننسى شفاعة سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله عند الرئيس المصري جمال عبد النّاصر قبل تنفيذه حكم الإعدام في "سيد قطب" رحمه الله.
وهذا علامة اليمن مقبل بن هادي الوادعي مع ما عرف واشتهر عنه من شدته على الجماعات الحزبية المعاصرة، لا سيما "الإخوان المسلمون"، التي كان يسميهم بـ"الإخوان المفلسون".
قال رحمه الله في كتابه "المخرج من الفتن ص90".((لما قام الإخوان بدعوتهم وأرعبت حكام المسلمين لما لها من نفوذ في جميع مجالات الحياة، فتك الطاغية جمال عبد النّاصر بهم، وأودعهم السجون، فمنهم من عذبه عذاباً وحشياً، ومنهم من سجنه طويلاً......."..
وليس هذا بجديد على مسامعنا، فإنّ أهل السنة ((.. هم أعلم"النّاس" بالحق وأرحم بالخلق)) وهم ((نقاوة المسلمين، فهم خير الناس للناس) كما في "منهاج السنة 5/ 185".
وهنا سنضع (مقارنة)! يسيرةً، فنقول..:
1-لقد قال القذافي في حديثه أمام البرلمان التونسي بتاريخ (16/12/1988- ((إنّ الحجاب من عمل الشيطان))!.
2- شكك في السنة عموماً، فقال ((لا نستطيع مثلاً تأتي لنا بحديث وتقول؛ هذا الحديث رواه النبي، لا نستطيع أن نعرف هل هذا الحديث اختلقه معاوية أم قاله النبي فعلا؟ أم اختلقته سجاح أم قاله أبو سفيان أم أبو لهب؟ لا نعلم، لأن هناك آلاف الأحاديث عليها علامة استفهام، يا ترى أياً منها قاله النبي فعلاً.))!!
3- بل قال القذافي عن الكعبة بالحرف : " إن الكعبة هذه؛ هي آخر صنم ما زال باقياً من الأصنام " وذلك في افتتاح مجلس اتحاد الجامعات العربية، بمدينة بنغازي؛ 17/2/1990.
فهذا غيضٌ من فيض!، وقطرةٌُ من بحر!!، فهل قرأنا أو سمعنا عن أحدٍ من "الإخوان المسلمون" أو غيرهم من المنتسبين لـلإسلام وصل به (ضلاله)! أو (انحرافه)!! إلى هذا الحدّ.؟
بل لا نــعرف أحداً قام بالتشكيك والمحاربة للسنة في هذا الزمان أعظم من القذافي، فقد إجتمعت فيه عدوى (الباطنية) و(العقلانية) ، و (الفاطمية)!!.
ولعلّ هذا ما جعل اللجنة الموقرة من هيئة كبار العلماء تصف في نهاية بيانها وفتواها المتعلقة بـ"القذافي"بكونه.:(( كافرًا، وضالاًّ مضلاًّ، فضلاً عن ظلمه وطغيانه وإجرامه)).
بل لا أعرف لهذه الهيئة المباركة أي فتوة أو بيانٍ في (جماعة)! أو(فئة)! أو (طائفة)!، بلغت من التحذير ما بلغت هذه الفتوى!.
فــلو سلمنا -جدلاً- أنّ الذين قاموا على حكم القذافي من الجماعات الحزبية المعاصرة، فبالله عليكم من أقرب إلى السنة والدّين .. أهــؤلاء المستضعفون، الذين اعتدي على أعراضهم، واغتصبت نساؤهم، وسرقت أموالهم، ويتمت أبناؤهم؟
أم هذا المجرم وكتائبه؟
الجــواب..:
في نظري من الحماقة "المقارنة"! فضلاً عن "المفاضلة"!! بينهما.
ألم يكن يهتف هو وزبانيته في يوم من الأيام ويقولون..:
بو لحية وسروال قصير عليه ادوس الجماهير!
لقد كتب الأستاذ مصطفى السباعي رحمه الله كتاباً أسماه "السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي"،قصم به ظهر المستشرقين والعقلانيين وهو من أكابر منظري هذه الحركة..
أمّا القذافي فطيلة تاريخه قائم على محاربة السنة والإستهزاء بها، بل لا نعرف أحداً نادى بقيام الدولة الفاطمية في هذا العصر بما نادى به هذا (المعتوه)!.
وقد سبق أن ذكرت في أوائل هذا الفصل أنّ شيخ الإسلام ابن تيمية قد كان له من النصيب الوافر في تقرير أصل (خير الخيرين، وشر الشرين)، وقد جسده رحمه الله نظرياً وتطبيقياً. فقال رحمه الله: (فإذا تعذر إقامة الواجبات من العلم والجهاد وغير ذلك إلا بمن فيه بدعة مضرتها دون مضرة ترك ذلك الواجب، كان تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدة مرجوحة معه خيراً من العكس، ولهذا كان الكلام في هذه المسائل فيه تفصيل.) الفتاوى 28/ 212.
وقال أيضاً: (وأهل الكتاب خير من المشركين، وقد ذكرنا أنه لما اقتتل فارس والروم وانتصرت الفرس ساء ذلك أصحاب رسول الله وكرهوا انتصار الفرس على النصارى، لأنّ النصارى أقرب إلى دين الله من المجوس والرسل بعثوا بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها وتقديم خير الخيرين على أدناهما حسب الإمكان ودفع شر الشرين بخيرهما) "الجواب الصحيح 2/ 434".
وقال أيضاً: ( ألا ترى أن أهل السنة وإن كانوا يقولون في الخوارج والروافض وغيرهما من أهل البدع ما يقولون، لكن لا يعاونون الكفار على دينهم، ولا يختارون ظهور الكفر وأهله على ظهور بدعة دون ذلك.) "منهاج السنة النبوية 6/ 375".
وذكر الإمام ابن القيم في كتابه "زاد المعاد3/ 398" الفوائد المستخرجة من قصة صلح الحديبية، فقال: (( ومنها: أن المُشْرِكين، وأهلَ البِدَع والفجور، والبُغَاة والظَّلَمة، إذا طَلَبُوا أمراً يُعَظِّمُونَ فيه حُرمةً مِن حُرُماتِ الله تعالى، أُجيبُوا إليه وأُعطوه، وأُعينوا عليه، وإن مُنِعوا غيره، فيُعاوَنون على ما فيه تعظيم حرمات الله تعالى، لا على كفرهم وبَغيهم، ويُمنعون مما سوى ذلك، فكُلُّ مَن التمس المعاونةَ على محبوب للهِ تعالى مُرْضٍ له، أُجيبَ إلى ذلك كائِناً مَن كان، ما لم يترتَّب على إعانته على ذلك المحبوبِ مبغوضٌ للهِ أعظمُ منه، وهذا مِن أدقِّ المواضع وأصعبِهَا، وأشقِّهَا على االنفوس.))
لكن ماذا سنفعل مع أقوام أشربت قلوبهم حبّ النّقد والطعن، حتى أنستهم أعلى وأغلى الواجبات!.
((فتدبر العدل والبغي، واعلم أنّ عامة الفساد من جهة البغي، ولو كان كل باغٍ يعلم أنّه باغٍ لهانت القضية، بل كثير منهم أو أكثرهم لا يعلمون أنّهم بغاة، بل يعتقدون أنّ العدل معهم، أو يعرضون عن تصور بغيهم!.)) "قاعدة في الإخلاص 42" لشيخ الإسلام..
ثمّ إن الضابط في الولايات كلّها ألاّ نقدم فيها إلاّ أقوم الناس بجلب مصالحها ودرء مفاسدها..
قال الفقيه العز بن عبد السلام في "قواعده" 1/ 122" (( الحكام إذا تفاوتوا في الفسوق قدمنا أقلهم فسوقاً، لأنا لو قدمنا غيره لفات مع المصالح ما لنا عنه مندوحة، ولا يجوز تفويت مصالح الإسلام إلا عند تعذر القيام بها، ولو لم يجوز هذا وأمثاله لضاعت أموال الأيتام كلها، والمصالح بأسرها. وقد قال الله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾.))..
ولا أتصور أن يكون هناك أحدُ أكثر فسوقاً وإجراماً من (القذافي وزبانيته)! الذين أطلق عليهم وأسماهم "اللجان الثورية"..وإن تعجب فعجبٌ ممن يرى مشروعية القتال مع القذافي وكتائبه!، بل يأمر به!! ويحث عليه، بدعوى أنّهم (بغاة)!- وأن هذا المعتوه (ولي أمرٍ شرعي)!!، ولم يدر هذا المسكين أنّ ((من أعان على خصومة لا يدري أحق أم باطل؟ فهو في سخط الله حتى ينزع))، كما في (الصحيحة 1021).
وهنا لا بدّ من عدة ملحوظات..:
الأولى..: أنّ قوله تعالى : ﴿فإن بغت إحداهما على الأُخرى فقاتلوا التي تبغي ختى تفيئ إلى أمر الله﴾فإنّ الأية لــم تفرق بين حاكم ومحكوم.. و...و..، والقذافي هو الذي انتهك الأعراض،وسفك الدماء، ونهب الأموال، وما زال النّاس الذين في المناطق المحاصرة يقومون بواجب الدفع والردّ.
لذا قال الإمام الحجة أبو محمد بن حزم رحمه الله في المحلى 12/ 231..(.. فلم نجد الله تعالى فرق في قتال الباغية على الأخرى بين سلطان وغيره، بل أمر تعالى بقتال من بغى على أخيه المسلم-عموماً- حتى يفيء إلى أمر الله تعالى: ﴿وما كان ربّك نسياً﴾.
وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ﴿من قتل دون ماله فهو شهيد﴾ أيضاً عموم- لم يخصّ سلطاناً من غيره، ولا فرق في قرآن، ولا حديث، ولا إجماع ولا قياس، بين من أريد ماله، أو أريد دمه، أو أريد فرج امرأته، أو أريد ذلك من جميع المسلمين، وفي الإطلاق على هذا هلاك الدّين وأهله، وهذا لا يحلّ بلا خلاف- وبالله التوفيق.).
ثم لا يشترط في إطلاق الباغي أن تكون مقصورة على المحكوم دون الحاكم ، فإن البغي هو مجاوزة الحد ، وهذه المجاوزة قد تكون من الحاكم دون المحكوم.
والدليل قصة معاوية رضي الله عنه مع علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، فقد اعتبر عامة أهل العلم أن معاوية رضي الله تعالى عنه هو من كان باغياً مع أنه كان والياً على الشام .
قال ابن تيمية : ((عنْ أَمْ سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : " تَقْتُلُ عَمَّارًا الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ . وَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ إمَامَةِ عَلِيٍّ وَوُجُوبِ طَاعَتِهِ وَأَنَّ الدَّاعِيَ إلَى طَاعَتِهِ دَاعٍ إلَى الْجَنَّةِ وَالدَّاعِي إلَى مُقَاتَلَتِهِ دَاعٍ إلَى النَّارِ - وَإِنْ كَانَ مُتَأَوِّلًا - وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَجُوزُ قِتَالُ عَلِيٍّ وَعَلَى هَذَا فَمُقَاتِلُهُ مُخْطِئٌ وَإِنْ كَانَ مُتَأَوِّلًا أَوْ بَاغٍ بِلَا تَأْوِيلٍ وَهُوَ أَصَحُّ ( الْقَوْلَيْنِ لِأَصْحَابِنَا وَهُوَ الْحُكْمُ بِتَخْطِئَةِ مَنْ قَاتَلَ عَلِيًّا وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ الَّذِينَ فَرَّعُوا عَلَى ذَلِكَ قِتَالَ الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ..
وَكَذَلِكَ أَنْكَرَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ عَلَى الشَّافِعِيِّ اسْتِدْلَالَهُ بِسِيرَةِ عَلِيٍّ فِي قِتَالِ الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ قَالَ : أَيُجْعَلُ طَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ بُغَاةً ؟ رَدَّ عَلَيْهِ الْإِمَامُ أَحْمَد فَقَالَ وَيْحَك وَأَيُّ شَيْءٍ يَسَعُهُ أَنْ يَضَعَ فِي هَذَا الْمَقَامِ : يَعْنِي إنْ لَمْ يَقْتَدِ بِسِيرَةِ عَلِيٍّ فِي ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ سُنَّةٌ مِنْ الْخُلَفَاءالرَّاشِدِينَ فِي قِتَالِ الْبُغَاة)) مجموع الفتاوى 4/ 438
ثانياً..: يشترط في الولاية "الإسلام":﴿ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً﴾، وهي ما انتفيتٌ في هذا الرجل!..
قال القاضي عياض: ( أجمع العلماء على أن الإمامة لا تنعقد لكافر، وعلى أنه لو طرأ عليه كفر وتغيير للشرع أو بدعة خرج عن حكم الولاية وسقطت طاعته، ووجب على المسلمين القيام عليه وخلعه ونصب إمام عادل إن أمكنهم ذلك، فإن لم يقع ذلك إلا لطائفة وجب عليهم القيام بخلع الكافر) نقله النووي في شرح مسلم 12/ 229.
قال أبو يعلي: ( إن حدث منه ما يقدح في دينه، نظرت، فإن كفر بعد إيمانه فقد خرج عن الإمامة، وهذا لا إشكال فيه؛ لأنه قد خرج عن الملة ووجب قتله). المعتمد في أصول الدين (ص 243).
فتكفير أكابر علماء هذا الزمان لهذا (المعتوه)! أوضح من الشمس في رابعة النّهار، وقبل أن يتبادر إلى أذهاننا فنسأل عمّن كفره!؟، يجب علينا عكس السؤال وأن نّقول من لمّ يكفره!!؟
وهنا فتوى لهيئة كبار العلماء برئاسة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز وثلّة من إخوانه العلماء رحم الله أحيائهم وأمواتهم، منذ أكثر من ثلاثين سنة!.
وهذا جزء مما تضمنته..:
((استعرض المجلس الاتجاهات العدائية التي تقوم بها صحائف منحرفة في اتجاهاتها وعقائدها، يحدوها الحقد والحسد، ويسيِّرُ اتجاهاتها الآثمة المنحرفة: عناصرُ ذات مشارب متشابهة في عداء الإسلام والمسلمين، ترى في هذه البلاد ما يعوق مخططاتها الأثيمة في اعتبار هذه البلاد القاعدة الكبرى للإسلام والمسلمين، وفي طليعة هذه الطوائف المنحرفة والموجهة: طاغية ليبيا معمَّر القذافي، ذلك الرجل الذي نذر نفسه لخدمة الشرِّ وإشاعة الفوضى وإثارة الشغب والتشكيك في الإسلام).
ثم قال أولئك العلماء الأجلاء أثابهم الله: (إن مجلس هيئة كبار العلماء وهو يستنكر تمادي هذا الدعي على الإسلام والمسلمين؛ ليُقرِّرُ ويؤكِّدُ أنه بإنكاره لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستخفافه بالحجِّ، واستهانته ببعض التعاليم الإسلامية، واتجاهاته الآثمة الباطلة؛ يعتبرُ بذلك: كافرًا، وضالاًّ مضلاًّ، فضلاً عن ظلمه وطغيانه وإجرامه،...).
ثالثاً: أنّ مما تتم وتُحكم به قبضة السلطة والولاية "وجودُ الشوكة"، فقد قال الإمام أبو المعالي الجويني: (فإذا تأكدت البيعة وتأطدت بالشوكة والعَدد والعُدد، واعتضدت وتأيدت بالمنة، واستظهرت بأسباب الاستيلاء والاستعلاء، فإذ ذاك تثبت الإمامة وتستقر وتتأكد الولاية وتستمر) ".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : ( فمتى صار قادرًا على سياستهم ، إما بطاعتهم أو بقهره فهو ذو سلطان مطاع إذا أمر بطاعة الله ) منهاج السنة 1/ 142
وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله : ( الأئمة مجمعون من كل مذهب على أن من تغلَّب على بلد أو بلدان، له حكم الإمام في جميع الأشياء، ولولا هذا ما استقامت الدنيا) "الدرر السنية 7/ 239"
وهذه الشوكة والقهر والاستيلاء مما أصبحت تفتقر إليه ولاية "القذافي"، فهو فقد السيطرة على ثلثي البلاد، ناهيك على أنّ أكثر الموجودين في تلك المناطق التي تحت يديه تغلي وتضيق درعاً من بقائه وسلطته.
ونزعت من (القذافي)، فانتقلت إلى معارضيه وخالعيه ، قال أبو المعالي الجويني ..:(( نعم لابد في الخلع والعقد من اعتبار شوكة)) كما في "الغياثي88"
وبما أن الشوكة قد أصبحت من نصيب "المجلس الانتقالي" في المناطق الشرقية وأكثر الغربية، فعلى هذا ينبغي اعتبارهم الممثلين الرسميين للشعب الليبي، ولو بالأقل للمدن التي قامت وثارت!. فيجب حينها أن تقام معهم الجمع الصلوات، وأن يقرّ لهم بالسمع والطاعات.
فقد روى ابن سعد في "الطبقات 4/ 149"، عن سيف المازني قال: ( كان ابن عمر يقول: لا أقاتل في الفتنة، وأصلي وراء من غلب ) وإسناده صحيح كما في "الإرواء 525".
وجاء في "الأحكام السلطانية ص23"- لأبي يعلى ما نصه: ((في رواية أبي الحارث في الإمام يَخْرُجُ عليه من يطلب الملك، فيكون مع هذا قوم ومع هذا قوم؟ قال..: تكون الجمعة مع من غلب)).
ومما تتأكد به الشوكة هو مبايعة أهل الحلّ والعقد من أهل العلم، والقذافي قد عاش اضطراباً واختلافاً مع أكابر مشائخ وعلماء ليبيا-إبتداءاً من العالم الفحل الشيخ طاهر الزاوي، ومروراً بالشيخ المقتول ظلماً محمّد البشتي رحمهما الله ، وانتهاءً بالعلامة الفقيه الشيخ الصادق بن عبدالرحمن الغرياني وفقه الله.
رابعاً: لو سلمنا جدلاً أن هؤلاء الذين قاموا على القذافي هم أيضاً أهل شر وفتن،(وحاشاهم من ذلك) أليس من الأولى بدلاً من أن تكون مواقفكم تخدم وتنصب عند مصالح القذافي بحجة أنه "ولي أمر"!، مع إقراركم وللأسف بـ"كفره"!، فضلاً عن جوره وظلمه، بأن تكونُوا معتزلين غير مناصرين لهذا أو ذاك..
قال الإمام أبو بكر بن العربي .:(.. وَقَدْ رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ ، عَنْ مَالِكٍ : إذَا خَرَجَ عَلَى الْإِمَامِ الْعَدْلِ خَارِجٌ وَجَبَ الدَّفْعُ عَنْهُ ، مِثْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، فَأَمَّا غَيْرُهُ فَدَعْهُ يَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْ ظَالِمٍ بِمِثْلِهِ ثُمَّ يَنْتَقِمُ مِنْ كِلَيْهِمَا.) أحكام القرأن 4/ 114
خامساً.: لا بدّ أن نّفهم مسألة (الجهاد مع كل برً وفاجرٍ)،ولم يقولوا (كافر)!، فهماً صحيحاً، مع النظر إلى حيثياتها ومقاصدها ومآلاتها، وألاّ نأخذها على ظاهرها فنفسد بدلاً من أن نصلح.
قال صاحب (التاج والأكليل لمختصر خليل) ((اُخْتُلِفَ فِي مُعَاوَنَةِ وُلَاةِ الْجَوْرِ فِي الْجِهَادِ وَالْوِلَايَاتِ وَالْأَحْكَامِ :
وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ، فَتَنْظُرُ مَنْ تَوَجَّهَ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَوْ دَعَا إلَيْهِ هَلْ يُؤَدِّيهِ الدُّخُولُ فِيهِ إلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ مِمَّا يَدْعُو إلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الدُّخُولُ، أَوْ يُؤَدِّيهِ تَرْكُهُ إلَى مَضَرَّةٍ تَطْرَأُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَوْ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ فَيَجُوزُ لَهُ الدُّخُولُ..)).
ويأتي شيخ الإسلام ابن تيمية كعادته محرراً ومرجحاً وموضحاً، فقد قال رحمه الله، عند حديثه عن قتال الخوارج: ((وقد اتفقت الصحابة على قتالهم ولا خلاف بين علماء السنة أنهم يقاتلون مع أئمة العدل مثل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لكن هل يقاتلون مع أئمة الجور،؟ فنقل عن مالك أنهم لا يقاتلون، وكذلك قال فيمن نقض العهد من أهل الذمة لا يقاتلون مع أئمة الجور، ونقل عنه أنه قال ذلك في الكفار، وهذا منقول عن مالك وبعض أصحابه، ونقل عنه خلاف ذلك وهو قول الجمهور وأكثر أصحابه خالفوه في ذلك، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وقالوا: يغزى مع كل أمير براً كان أو فاجراً ،إذا كان الغزو الذي يفعله جائزاً..
فإذا قاتل الكفار أو المرتدين أو ناقضي العهد أو الخوارج قتالاً مشروعا قوتل معه، وإن قاتل قتالاً غير جائز لم يقاتل معه، فيعاون على البر والتقوى - ولا يعاون على الإثم والعدوان ،كما أن الرجل يسافر مع من يحج ويعتمر وإن كان في القافلة من هو ظالم فالظالم لا يجوز أن يعاون على الظلم لأن الله تعالى يقول ﴿وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان﴾..)) منهاج السنّة النبوية 7 / 117
فهل الجرائم التي ترتكبها كتائب "القذافي"! من قبيل القتال المشروع.؟
فهل طبقت تلك الكتائب واحدةً من الأحكام الشرعية التي تطبق على "البغاة"، تنزلاً!، بأن : لا يبتدؤن بقتال، ولا يُتْبَع مُدْبِرُهم، ولا يُجْهَزُ على جَريحِهم وأسيرهم، ولا تغنم أموالهم، ولا تُسْبَى ذُرِّيَّاتهم)).؟ أم أن العكس هو الواقع.؟
فقد نقل لنا عدةُ من إخواننا الأطباء أن "المتظاهرين"، كانوا يُلاحقون في المستشفيات، بل حدثني من كان حاضراً أن الكتائب كانت تركب سيارات الإسعاف، وتطلق من خلالها الرصاص على"المتظاهرين" المدنيين!، وأنّ الجثت كانت تسحب من المستشفيات وتحمل إلى أمكنة لا تعرف!.
وقد صح عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنّه قال .(( من قاتل تحت راية عمية ...)) رواه مسلم في صحيحه (1848)- فإن الراية العمية هي التي لا يستبين وجه الحق من الباطل فيها، أو تكون لعصبية جاهلية وعناصر فاسدة، فكم أشعلت هذه الراية المشئومة من حروب طاحنة ، ومعارك مسعورة، وفتن هوجاء، وهذه هي الراية التي يحرم الانضمام إليها والقتال تحتها، إنها راية لا تحفل بالدّين، ولا تقيم لروابطه وزناً ، ولعل المعنى واضح من الحديث حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ومن قاتل تحت راية عمية ، يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة ، أو ينصر عصبة فقتل فقتله جاهلية) وجاء في "شرح النووي على مسلم" أنّ (العمية) ((هي الأمر الأعمى لا يستبين وجهه كذا قاله أحمد بن حنبل والجمهور..)) ولا يشك عاقل أنّ القذافي لا يقاتل من أجل شعبٍ فضلاً على أن يقاتل من أجل دين!، وإنّما يقاتل من أجل انتفام ومالٍ ومقدرات شعبٍ بقى جاثماً على صدره منذ أكثر من أربعة عقود.
سادساً..: لا يشك عاقلٌ أن هذه ثورة شعب مسلم بشتى أطيافه وتصوراته، وعند الموازنة والمقارنة يظهر أنهم أقرب إلى الحق والخير من القذافي وكتائبه بدون أدنى شك! فيجب حينئذٍ أن يُنصروا، وأن يُدعموا -كلٌ على قدر استطاعته- من باب نصرة المظلوم، وتغيير المنكر.
قال الإمام ابن حزم رحمه الله..: ((فإن كان الإمام جائراً فقام عليه مثله أو دونه قوتل معه القائم؛ لأنه منكر زائد ظهر. فإن قام عليه أعدل منه وجب أن يقاتل مع القائم؛ لأنه يغير منكر)) المحلى 10/ 237..
وهنا كلام نفيس للفقيه العز بن عبد السلام يحسن قرآته وتدبره، لأنه ينبئ عن علم وفهم دقيق، قال رحمه الله: (( إذا تفاوتت رتب الفسوق في حق الأئمة، قدمنا أقلهم فسوقاً، مثل إن كان فسق أحد الأئمة بقتل النفوس، وفسق الآخر بانتهاك حرمة الأبضاع، وفسق الآخر بالتضرع للأموال، قدمنا المتضرع للأموال على المتضرع للدماء والأبضاع، فإن تعذر تقديمه قدمنا المتضرع للأبضاع على من يتعرض للدماء، وكذلك يترتب التقديم على الكبير من الذنوب والأكبر والصغير منها والأصغر على اختلاف رتبها.
فإن قيل: أيجوز القتال مع أحدهما لإقامة ولايته وإدامة تصرفه مع إعانته على معصيته؟ قلنا: نعم، دفعاً لما بين مفسدتي الفسوقين من التفاوت ودرءا للأفسد فالأفسد، وفي هذا وقفة وإشكال من جهة أنا نعين الظالم على فساد الأموال دفعا لمفسدة الأبضاع وهي معصية.
وكذلك نعين الآخر على إفساد الأبضاع دفعا لمفسدة الدماء وهي معصية، ولكن قد يجوز الإعانة على المعصية لا لكونها معصية بل لكونها وسيلة إلى تحصيل المصلحة الراجحة. وكذلك إذا حصل بالإعانة مصلحة تربو على مصلحة تفويت المفسدة كما يبذل المال في فدى الأسرى الأحرار المسلمين من أيدي الكفرة والفجرة)) "قواعد الأحكام 1/ 123".
سابعاً: أنّ من قام يدفع ويدافع عن عرضه وماله ونفسه لا يعتبر باغياً شاقاً عصى المسلمين..
فما يثيره بعضهم من زوابع بداعي أنّه قتال بين مسلمين،مدعياً تارةً تحريم قتالهم ولو (بدفعهم) بحرمة دم المسلم، وأخرى بأنّ القذافي ولي أمر شرعي! لهو من الجهل البين، وقد ذكر الإمام ابن كثير في البداية والنهاية 14\ 27 عند حديثه عن "وقعة شقحب" المشهورة، فكان مما قال: ((وَقَدْ تكلَّم النَّاس فِي كَيْفِيَّةِ قِتَالِ هَؤُلَاءِ التَّتَرِ مِنْ أَيِّ قَبِيلٍ هُوَ، فَإِنَّهُمْ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَلَيْسُوا بُغَاةً عَلَى الْإِمَامِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا فِي طَاعَتِهِ فِي وَقْتٍ ثُمَّ خَالَفُوهُ.
فَقَالَ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ: (( هَؤُلَاءِ مِنْ جِنْسِ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ خَرَجُوا عَلَى عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ، وَرَأَوْا أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِالْأَمْرِ مِنْهُمَا، وَهَؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِإِقَامَةِ الْحَقِّ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَعِيبُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَا هُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِهِ مِنَ الْمَعَاصِي وَالظُّلْمِ، وَهُمْ مُتَلَبِّسُونَ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ، فَتَفَطَّنَ الْعُلَمَاءُ وَالنَّاسُ لِذَلِكَ..))
وقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن سُلَيْمَانُ الْأَحْوَلُ أَنَّ ثَابِتًا مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ لَمَّا كَانَ بَيْنَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو وَبَيْنَ عَنْبَسَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ مَا كَانَ تَيَسَّرُوا لِلْقِتَالِ، فَرَكِبَ خَالِدُ بْنُ الْعَاصِ إِلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو فَوَعَظَهُ خَالِدٌ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ»
قال الإمام أبو محمّد بن حزم : ((قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فَهَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بَقِيَّةُ الصَّحَابَةِ وَبِحَضْرَةِ سَائِرِهِمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - يُرِيدُ قِتَالَ عَنْبَسَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ عَامِلَ أَخِيهِ مُعَاوِيَةَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ إذْ أَمَرَهُ بِقَبْضِ " الْوَهْطِ " وَرَأَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو أَنَّ أَخْذَهُ مِنْهُ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَمَا كَانَ مُعَاوِيَةُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِيَأْخُذَ ظُلْمًا صُرَاحًا، لَكِنْ أَرَادَ ذَلِكَ بِوَجْهٍ تَأَوَّلَهُ بِلَا شَكٍّ، وَرَأَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِحَقٍّ، وَلَبِسَ السِّلَاحَ لِلْقِتَالِ، وَلَا مُخَالِفَ لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ)) المحلى 11 /335
وقال الحافظ ابن حجر:(( وأما من خرج عن طاعة إمامٍ جائر أراد الغلبة على ماله أو نفسه أو أهله فهو معذور، ولا يحل قتاله، وله أن يدفع عن نفسه وماله وأهله بقدر طاقته، وسيأتي بيان ذلك في كتاب الفتن، وقد أخرج الطبري بسند صحيح عن عبد الله بن الحارث عن رجل من بني نضر عن علي وذكر الخوارج فقال: إن خالفوا إماماً عدلاً فقاتلوهم، وإن خالفوا إماما جائراً فلا تقاتلوهم فإن لهم مقالاً.
قلت –القائل ابن حجر-: وعلى ذلك يحمل ما وقع للحسين بن علي، ثم لأهل المدينة في الحرة، ثم لعبد الله بن الزبير، ثم للقراء الذين خرجوا على الحجاج في قصة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث والله أعلم)) فتح الباري 12/ 315
ثامناً..:قد رأينا واستفاض واشتهر وانتشر من أنّ هذه الكتائب تغتصب النّساء وتقتل الرجال والنساء والوالدان، وتنهب وتسرق الأموال، فكان حكمهم في مقاتلتهم كحكم الصائل،قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ وَمِنْ قُتِلَ دُونَ حُرْمَتِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ} . وَهَذَا الَّذِي تُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ " الصَّائِلُ " وَهُوَ الظَّالِمُ بِلَا تَأْوِيلٍ وَلَا وِلَايَةٍ فَإِذَا كَانَ مَطْلُوبُهُ الْمَالَ جَازَ دَفْعُهُ بِمَا يُمْكِنُ فَإِذَا لَمْ يَنْدَفِعْ إلَّا الْقِتَالُ قُوتِلَ وَإِنْ تَرَكَ الْقِتَالَ وَأَعْطَاهُمْ شَيْئًا مِنْ الْمَالِ جَازَ وَأَمَّا إذَا كَانَ مَطْلُوبُهُ الْحُرْمَةَ - مِثْلَ أَنْ يَطْلُبَ الزِّنَا بِمَحَارِمِ الْإِنْسَانِ أَوْ يَطْلُبَ مِنْ الْمَرْأَةِ أَوْ الصَّبِيِّ الْمَمْلُوكِ أَوْ غَيْرِهِ الْفُجُورَ بِهِ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا يُمْكِنُ وَلَوْ بِالْقِتَالِ وَلَا يَجُوزُ التَّمْكِينُ مِنْهُ بِحَالِ؛ بِخِلَافِ الْمَالِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ التَّمْكِينُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ بَذْلَ الْمَالِ جَائِزٌ وَبَذْلَ الْفُجُورِ بِالنَّفْسِ أَوْ بِالْحُرْمَةِ غَيْرُ جَائِزٍ. وَأَمَّا إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ قَتْلَ الْإِنْسَانِ جَازَ لَهُ الدَّفْعُ عَنْ نَفْسِهِ.))- مجموع الفتاوى 28\ 320
ومن أعجب العجب أن كتائب القذافي حينما تقتل وتسرق و (تغتصب)! توثق ذلك بجوالتها وكاميراتها، فيشاء الله بقدره أن يقع بعض أولئك الكتائب في أيدي (الثوار) إما قتيلاً أو أسيراً!.
تاسعاً..:قد صح عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال :((الإمام جُنّة ، يقاتل النّاس من ورائه)) رواه البخاري ومسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم (( السلطان ظل الله في أرضه..)) رواه أبن أبي عاصم..
قال الإمام ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث"..:((لأنه يدفَعُ الأذَى عن الناس كما يَدْفَع الظِّلُّ أذَى حَرّ الشمسِ)).
فهل دفع القذافي لهيبب صواريخه ومدفعيته على من يزعم أنهم ((شعبه)) قبل أن يدفع عنهم حرّ الشمس!؟
ويجب أن يُعلم أنّه بسبب هذه الفتاوى الفجّة، قد قام بالالتحاق بصفوف كتائب القذافي عدة من الشباب، بدعوى أنهم يقاتلون "خوارج"، وعصابات إجرامية زعموا!.
فليحملنّ أصحاب هذه الفتاوى:﴿أوزارهم ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم﴾.
وما أجمل ما قاله الإمام ابن القيم الجوزية في كتابه الفد "زاد المعاد 3/ 353".:
(( ثبت فى "الصحيحين" من حديث سعيد بن جُبير، عن ابن عباس، قال: نزلَ قولُه تعالى: ﴿يَأَيُّهَا الذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾[النساء: 59] في عبد الله بن حُذافة السَّهمى بعثه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى سَرِيَّةٍ.
وثبت فى "الصحيحين" أيضاً من حديث الأعمش، عن سعيد بن عُبيدة، عن أبى عبد الرحمن السُّلَمى، عن علىٍّ رضى الله عنه، قال: استعملَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجُلاً مِنَ الأنصارِ على سَرِيَّةٍ، بعثَهم وأمرهم أن يسمعُوا له ويُطِيعُوا، قال: فأغضبُوه فى شىءٍ، فقال: اجمعوا لى حَطَباً، فجمعوا، فقال: أَوْقِدُوا نارا، فأوقَدُوا، ثم قال: ألم يَأْمُرْكُم رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تسمعُوا لى وتُطيعوا؟ قالُوا: بَلَى، قال: فادْخُلُوهَا، قال: فنظر بعضُهم إلى بعضٍ، وقالُوا: إنما فَرَرْنَا إلى رسولِ اللهِ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِن النَّار. فَسَكَن غَضَبُهُ، وطُفِئَتِ النَّارُ، فلما قَدِمُوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكرُوا ذلك له فقال: "لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا، إنَّمَا الطَّاعَةُ فى المَعْرُوف".
وهذا هو عبد الله بن حُذافة السَّهمى.
فإن قيل: فلو دخلُوها دخلُوها طاعة للهِ ورسُولِه فى ظنهم، فكانوا متأوِّلين مخطئين، فكيف يُخَلَّدُون فيها؟ قيل: لما كان إلقاءُ نفوسهم فى النار معصيةً يكونون بها قاتِلى أنفسهم، فهمُّوا بالمُبَادرة إليها من غير اجتهاد منهم: هل هُو طاعةٌ وقُربة، أو معصيةٌ؟ كانوا مُقْدِمينَ على ما هو محرَّم عليهم، ولا تَسوغُ طاعةُ ولى الأمر فيه، لأنه لا طاعةَ لمخلوق فى معصيةِ الخالق، فكانت طاعةُ مَنْ أمرهم بدخول النار معصيةً للهِ ورسوله، فكانت هذه الطاعة هى سببَ العُقوبة، لأنها نفسُ المعصية، فلو دخلُوها، لكانُوا عُصاةً للهِ ورسولِه، وإن كانوا مطيعين لولى الأمر، فلم تدفع طاعتُهم لولى الأمرِ معصيتَهم للهِ ورسوله، لأنهم قد عَلِمُوا أن مَن قتل نفسه، فهو مستحِقٌ للوعيد، واللهُ قد نهاهم عن قتل أنفسهم، فليس لهم أن يُقْدِمُوا على هذا النهى طاعة لمن لا تَجِبُ طاعتُه إلا فى المعروف.
فإذا كان هذا حُكْمَ مَنْ عذَّب نفسه طاعة لولى الأمر، فكيف مَن عذَّب مسلماً لا يجوز تعذيبُه طاعة لولى الأمر؟.
وأيضاً فإذا كان الصحابةُ المذكورون لو دخلُوها لما خرجوا منها مع قصدِهم طاعةَ اللهِ ورسوله بذلك الدخولِ، فكيف بمن حمله على مالا يجوزُ مِن الطاعة الرغبةُ والرهبةُ الدنيوية.)).
فكيف إذا أتى علينا أحمق أخرق =(جاهل)، وقام يصف القذافي وكتائبه بـ(القيادة الرشيدة)!، وأنه (ولي أمر تجب طاعته والقتال تحت رايته)!..
والعجيب أن هذا "الأحمق" تاريخُه حافل بالغمز واللمز في مشايخ السنة الأثبات كأمثال العلامة الألباني وغيره، لا سيما في قضيتي "الكفر والإيمان".
ومن أواخر تلك الطعون طعنه في معالي الشيخ صالح اللحيدان جعله الله غصّة في حلوق الطغاة.. والتعريض به والتنقص له..فهل أصبحنا نرى تلك المقولة ..:((مرجئة مع الحكام، خوارجُ مع الدعاء والعلماء)) متجسدة في هذا "الأحمق"!؟
﴿ربّ بما أنعمت عليّ، فلن أكون ظهيراً للمجرمين﴾.
اعتبــــار وتقديــــر المـــآلات
مما يجب على المجتهد والمفتي حين يجتهد ويفتي، أن يقدّر مآلات الأفعال وعواقب الأمور وما يؤول إليه في النهاية، وأن لا يعتبر مهمته تنحصر في إعطاء الحكم الشرعي فقط، بل مهمته أن يحكم في الفعل وهو ناظر إلى آثاره ومآلاته.
قال الشاطبي رحمه الله: (( إنّ المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام - إلا بعد نظرة إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل مشروعاً لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ )).
وقد وصفه الشاطبي بأنه (مجال للاجتهاد صعب المورد، إلاّ أنّه عذب المذاق). الموافقات 5/ 177 ".
إنّ اعتبار المآل أصل من أصول الفقه، جارٍ على مقاصد الشريعة، ولا شك أنه لابدّ للمفتي من معرفة هذا الأصل، ليعرف متى يُقدم ؟ ومتى يُحجم ؟ .. ومتى يُصرّح ؟ ومتى يُلمَّح ؟ ومتى يسكتّ!.؟
ولا شك أن من أعظم الحِكم والآثار المترتبة على قاعدة "اعتبار المآلات" تحقيق العدل بين النّاس، ودفع المفاسد والأضرار، واعتبار قاعدة "سد الذرائع" المرتبطة بالمصلحة.
ومن الطرق التي تنكشف بها مآلات الأفعال أمور منها[11]..:
1- التصريح بالمآل
2- القرائن المكشوفة
3- حال الشخص
4- حال الواقع
5- الظن الغالب
6- التجربة..
فما يفتي به بعضهم من أنّ الواجب على النّاس الّذين قاموا على هذا "النّظام"! أن يضعوا أسلحتهم، وأن يسلموا أنفسهم!، مستدلين بأحاديث الصبر على جور السلطان!، غاضين الطرف والنظر! عما يؤل إليه الحال والمآل، ناسين ومتناسين شراسة وانتقام هذا النّظام-لَمِنَ الخلل العظيم الواضح!، ومن الجهل القبيح الفاضح!.
فلو سلمنا جدلاً أن هذا "الجائر"!، كان مسلماً عدلاً!، مستوفياً للشروط، وأخذنا بمفهوم حديث: ((وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك))، معلّلين ومتعللين بأنّ المقصد من ورائهِ هو عدم "سفك الدّماء"، وترويع "الدهماء"، فهل سنراه متحققاً..؟
لقد صرح هذا (المعتوه)! في إحدى خطاباته في سنة 1980- قائلاً:(( من يريد أن يقف ضد الثورة [يعني انقلابه هو] فهذا أمر مفروغ منه، سنداهم هذا الموقع، وندمره، وحتى ولو كان مسجداً "!..
فعندنا من القرائن وهي معلومة، وكل من يعرف النظام الليبي- يعلم تماماً أنه لن يتوانى في التنكيل والتشريد بمن شاركوا بــ "الكلام" فضلاً عن "السلاح"!.
وسيرته وتاريخه يعج بهذه الجرائم، وهذا ما وعد به في إحدى خطاباته الأخــيرة، بقوله: (( سأزحف ليس وحدي، أنا معي الملايين، لتطهير ليبيا، شبر شبر، بيت بيت، دار دار، زنقة زنقة )).!!!!.
مما جعل سماحة الشيخ عبد المحسن بن حمد العبّاد حفظه الله يقول..:(.. وأمّا القذافي المتسلط في ليبيا، فأقول ﴿رب بماأنعمت عليّ، فلن أكون ظهيراً للمجرمين﴾، وإنّ الفرح برحيله عن ولاية ليبيا شديد، وذلك لما ابتلي به من استكبار وإيذاءٍ للشعب الليبي، ولا أدل على ذلك سفاهاته وغطرسته من خطابه الذي ألقاه قريباً بمناسبة هذه الأحداث.......)
وقصة سجــن أبي سليم أكبر شاهد على ذلك، فهو لم يتوان على قتل ما يزيد على ألفِ ومائتين سجينٍ في أقل من أربع ساعات!، فهل سيؤتمن على أهالي مدينة بنغازي – ومصراتة وجبل نفوسة وغيرهم، وما تعج به سجون طرابلس من شيبٍ وشبّان!.؟.
إنَّ العلماء الحقّ هم الذين يقفون على أرض راسخة من البصيرة والورع لا يستفزهم الجدل، ولا تثيرهم أهواء الناس، بل تراهم يأخذون بحظ وافر من النّصيحة والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، وليس كل أحد يستطيع أن يبصر مآلات الأمور، وليس كل مبصر لها قادراً على درئها، وإنَّ الرجل المبارك ليرى المِرجل يغلي بين الصفوف، فيعينه ربه عز وجل على امتصاص الفتنة وإطفاء لهيبها، بما آتاه الله من الهدى والحكمة والأفق الواسع ؛ فهو يتجاوز ظواهر الأعراض وينفذ إلى بواطنها، وينطلق من سطحية الأسباب إلى جوهرها..
ورحم الله الإمام ابن القيم حين قال :« نور العقل يضيء في ليل الهوى، فتلوح جادة الصواب، فيتلمح البصير في ذلك عواقب الأمور »."الفوائد41"
ولئن كان بيان الحق واجباً والسكوت عن الخطأ منكراً ، فإن النّاصح المشفق من أهل العلم والتقى يستصحب بقية المصالح، ويدرأ ما أمكن من المفاسد، وينظر بعين المصلح الذي يرعى المقاصد الشرعية المأمور بها جميعها، فيقدم أولاها وأقربها لمراد الله عزَّ وجل ومرضاته.
تغـــير مســـار الفتــوى وأسبابــه
من سنن الله - تعالى - الكونية الجارية، أن لا يدوم شيء على حال إلا ريثما يتسلَّط عليه انتقال، وأن شأن الدنيا في أسبابها وتصاريفها مبني على التغيُّر والتبدُّل؛ فلا يدوم لها حال.
وقد قال - تعالى -: ﴿لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ﴾ [الانشقاق: 19]. ومن معاني ذلك مرورُه بالشباب والكهولة والشيخوخة، وتعرُّضُه للفقر والغنى والصحة والمرض... وغيرها. قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في الآية: (حالاً بعد حال)[1].
وقال بعض السلف: (في كل عشرين سنة تُحدِثون أمراً لم تكونوا عليه).
وبما أن الله قد أتمّ دينه وشريعته بمبعث نبيا محمد صلى الله عليه وسلم الذي ختم به رسالة أنبيائه، فإن من ضرورة ذلك أن تكون الأحكام الشرعية التي تضمنتها تلك الشريعة الخاتمة شاملة وثابتة لا يشوبها نقص أو قصور، ولا يعتريها تبديل أو تغيير، وهذه قضية بدهية عليها أدلة كثيرة من النصوص الشرعية ، وليس من قبيل المبالغة إذا قلت إن هذه المسألة عليها عشرات الأدلة من الكتاب والسنة.
بين الحكم الشرعي والفتوى :
وقبل المضي قدماً في الموضوع يحسن التعريف بالحكم الشرعي وبالفتوى معاً .
فالحكم الشرعي هو : « عبارة عن حكم الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين »كما في "التعريفات 33" للجرجاني .
والفتوى والفتيا هي : « ذكر الحكم المسؤول عنه للسائل » أي جواب المفتي- كما في "أنيس الفقهاء"، للقونوي ، 1/309 .
إنّ قضية. (تغير الفتوى بتغير الظروف)- التي تعني ببساطة أن المتصدي للإفتاء ينبغي أن يحسن تبين جوانب المسألة المعروضة عليه مع ثبات الحكم الذي يتنَزَّل عليها، بحيث تتغير هذه الفتوى (وليس الحكم الشرعي) إذا تغير بعض الظروف والملابسات المحيطة بالمسألة مما ينقلها من الوقوع تحت حكم معين إلى الوقوع تحت حكم آخر..
قال الإمام ابن القيم ..:(( تغير الفتوى واختلافها يحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد، بناء الشريعة على مصالح العباد في المعاش والمعاد، هذا فصل عظيم النفع جدا وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة، أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها.)) "اعلام الوقعين3/ 2".
ومن فقه السلف وإعمالهم لقاعدة..(تغير الفتوى) ما حكاه القاضي عياض : عن أبي العباس الأبياني، وكان قد دخل عليه عطية الجزري، فرحب به أبو العباس، فقال: أتيتك زائراً، ومودعاً إلى مكة. فقال له أبو العباس: لا تخلنا من بركة دعائك وبكى. وكان مع عطية ركوة ولاقى وداً. فخرج مع أصحابه، ثم أتاه بأثر ذلك رجل، فقال له: أصلحك الله، عندي خمسون مثقالاً، ولي بغل، فهل ترى في الخروج إلى مكة؟ فقال: لا تعجل، حتى توفر هذه الدنانير، فعجبنا من ذلك. واختلاف جوابه للرجلين، مع اختلاف أحدهما. فقال عطية: جاءني مودعاً غير مستشير، قد وثق بالله. وجاءني هذا يستشير، ويذكر ما عنده. فعلمت ضعف نيته ، فأمرته بما رأيته)) ترتيب المدارك 2/ 374
قال الإمام أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله معلقاً: ((فهذا إمام من أهل العلم أفتى لضعيف النية بالحزم في استعداد الأسباب، والنظر في مراعاتها، وسلَّم لقوي اليقين في طرح الأسباب؛ بناء -والله أعلم- على القاعدة المتقدمة في الاعتقادات وغلبات الظنون في السلامة والهلكة، وهي مظان النظر الفقهي، ولذلك يختلف الحكم باختلاف الناس في النازلة الواحدة)) الموافقات 1/ 332
ومما ينبغي أن يعرف ويعلم في نازلة ليبيا أن الأمر أصبح لا يقبل رجوعاً، لأنّ الأمور المترتبة على رجوع النّاس أعظم وأكبر مما جنته بداية، فالبدايات ليست كالنهايات..
إنّ الحديث عن ثورة أهل ليبيا على حاكمهم وصوابه من خطئه، قد فات أوانه، بعد أن فرضتْ الأحداث نفسها على أرض الواقع، فليس من المصلحة الخوض فيه الآن، فهو أمرٌ قد مضى وانقضى. على أنه لا ينبغي أن يغيب عن الأذهان اعتبار أن توقيت الثورة الليبية جاء متزامنًا مع نجاح -ولو نسبياً- الثورتين في الجارتين عن اليمين والشمال (تونس ومصر). الأمر الذي سهَّل على الساعين لإسقاط القذافي مهمتهم، ومهَّد لتوحيد الصف، ومنْع -أو تحجيم- الاختلاف في تقدير المصالح والمفاسد.
فبداية كنا نعزي أنفسنا وإخواننا بأحاديث الصبر على جور السلطان، أما والأمر قد وصل إلى ما وصل إليه من سفك للدماء وترويع للدهماء.. فوجب حينها أن تتغير نظرة الفقيه والمفتي، وأن تكون نظرته إلى أعلى المصالح جلباً، وأقبح المفاسد تركاً ودرءاً.
وأن الأمر -بخيره وشره- أصبح مرتبطاً ببقاء "رأس النّظام"، ولا أظن عاقلاً منصفاً يخالف أن الشر المترتب على بقائه أصبح أكثر وأكثر، وأن "خلعه" و "عزله" أصبح من أعظم المهمات، وهنا تظهر وتتغير وجهة نظر اجتهاد المفتي.
ولن يصل المفتي إلى نظرته في إحكام فتواه أو تغيرها إلاّ إذا فقه النّازلة التي يعيشها أو استفتي عنها، وأحكمها وعرف حيثياتها، ومداخلها ومخارجها، وما سيترتب عليها.
وعندما استُفتي شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في قتال التتار بيَّن ذلك الارتباط وأفتى بقوله : «نعم يجب قتال هؤلاء، بكتاب الله وسنة رسوله واتفاق أئمة المسلمين ، وهذا مبني على أصلين..
أحدهما..: المعرفة بحالهم .
والثاني : معرفة حكم الله في مثلهم )) " مجموع الفتاوى 28/ 511".
وقال ابن القيم رحمه الله-مبيناً أهمية ذلك ،: ((ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم.
أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه ، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علماً .
والنوع الثاني :: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع ، ثم يطبق أحدهما على الآخر)) "اعلام الموقعين 1/ 87 ..
ومن البيّن هنا أن الفتوى قد تدخل فيها أو ترتبط بها عدة عوامل، وبالتالي فإن الفتوى تكون مرتبة عليها، وقد يحدث أن يُستفتى المفتي في واقعة قد اجتمعت لها كل عواملها، فيفتي بالحكم الشرعي الذي ينطبق عليها، ثم تأتي واقعة أخرى مشابهة لها في الظاهر- لكن بينهما فرق مؤثر في الحقيقة نتيجة غياب بعض تلك العوامل أو وجود عوامل أخرى؛ فيفتي المفتي بحكم شرعي مناسب للحالة الأخرى.
ومما يجب فهمه وضبطه أن السلف مع قولهم بوجوب السمع والطاعة وعدم الخروج على أئمة الجور- لم يكونوا يمجدونهم = وينصرونهم ويتلطفون إليهم، بل كان شعارهم قول النبي صلى الله عليه وسلم:.((أدّوا الذي عليكم، وسلوا الله الذي لكم)).
بل قال الذهبي..:((قد كان عبد الله بن علي ملكا جبّاراً، سفاكاً للدّماء، صعب المراس، ومع هذا فالإمام الأوزاعي يصدعه بمر الحق كما ترى، لا كخلق من علماء السوء، الذين يُحسِّنون للأمراء ما يقتحمون به من الظلم والعسف، ويقلبون لهم الباطل حقا قاتلهم الله - أو يسكتون مع القدرة على بيان الحق ]سير أعلام النبلاء 7/ 12
فالمقصود أنه لا يلزم من قول القائل: إنّ الإمام (الجائر) (الظالم) الذي استحق "العزل"، ورأى الخروج عليه في نازلة وحادثة معينة، أن يكون ممن يرى الخروج دائمًا، بل أحياناً يُمنع الخروج على الحاكم الذي ظهر منه الكفر البواح لما سيترتب على ذلك.
إنَّ إيقاف المواجهة الآن لن يكون في صالح الشعب حتماً؛ لأن هذا السَّفَّاح سوف ينتقم من شعبه، ويسفك من دماء أبنائه خلال الأشهر القادمة أكثر مما يُتوقع سفكُهُ خلال أيام ثورة الشعب عليه، وتاريخه الأسود يشهد بذلك، فحينئذ وصل الحال إلى طريق مسدود دونما رجوع، وأصبح من آكد المتطلبات هو زواله وتنحيته..
وهذا ما قرره الأئمة وصرحوا به في كتبهم ومصنفاتهم.
قال الإمام أبو المعالي الجويني في كتابه [غياث الأمم105]..((وإن علمنا أنه لا يتأتى نصب إمام دون اقتحام داهية دهياء وإراقة دماء ومصادمة أحوال جمة الأهوال، وإهلاك أنفس ونزف أموال، فالوجه أن يقاس ما الناس مدفوعون إليه مبتلون به بما يفرض وقوعه في محاولة دفعه، فإن كان الواقع الناجز أكثر مما يقدر وقوعه في روم الدفع فيجب احتمال المتوقع له لدفع البلاء الناجز. وإن كان المرتقب المتطلع يزيد في ظاهر الظنون إلى ما الخلق مدفوعون إليه، فلا يسوغ التشاغل بالدفع، بل يتعين الاستمرار على الأمر الواقع، وقد يقدم الإمام مُهمّاً ويؤخر آخر، والابتهال إلى الله وهو ولي الكفاية)).
وقال أيضاً.(( إنّ المتصدي للإمامة إذا عظمت جنايته، وكثرت عاديته وفشي احتكامه واهتضامه وبدت فضاحته وتتابعت عثراته، وخيف بسببه ضياع البيضة وتبدد دعائم الإسلام، ولم يجد من تنصبه للإمامة حتى ينتهض لدفعه حسب ما يدفع البغاة، فلا يطلق للآحاد في أطراف البلاد أن يثوروا، فإنّهم لو فعلوا ذلك لاصطُلموا وأبيدوا، وكان ذلك سببا في ازدياد المحن وإثارة الفتن.
ولكن إن اتفق رجل مطاع ذو أتباع وأشياع ويقوم محتسبا آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر وانتصب بكفاية المسلمين ما دفعوا إليه فليمض في ذلك قدما، والله نصيره على الشرط المقدم في رعاية المصالح والنظر في المناجح وموازنة ما يندفع ويرتفع بما يتوقع وسيأتي هذا الفن على أبلغ وجه في البيان والله المستعان)) كما في ""غياث الأمم 105".
وقال العلامة محمد بن الوزير اليماني في "الروض الباسم.."2/ 380"..:(( أنّ منع الخروج على الظّلمة استثنى من ذلك من فحش ظلمه, وعظمت المفسدة بولايته..))..
وقال صاحب "الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني 1/ 156" بعد ذكره الخلاف في عزل الحاكم لمجرد ظهور فسقٍ ما، ثم رجح عدم الخروج والعزل للنصوص الصريحة المانعة من ذلك، ثم قال : ((مَا لَمْ يَشْتَدَّ الضَّرَرُ بِبَقَائِهِ، وَإِلَّا اُتُّفِقَ عَلَى عَزْلِهِ)).
ولا أظن عاقلاً يشك أنّ القذافي لو آلت له مرة ثانية، وتمكّن من حكم البلاد، سنرى من الدماء أضعاف أضعاف أضعاف! ما رأينا!..
﴿ربّنا لاتجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك من القوم الكافرين﴾.
أخـــــــــيراً
أنادي شعبنا وأهلينا في ليبيا الحبيبة بما ناداهم به عالم الجزائر الإمام محمد البشير الأبراهيمي رحمه الله- بمقالة كتبها منذ أكثر من خمسين سنةّ! أسماها "كلمة إلى الشعب الليبي":- قائلاً فيها:(( أيها الإخوان الليبيون الكرام.:
لم يعرف العصر الحديث شعباً غيركم دافع عن حريته كما دافعتم، ولا شعباً دفع أثمان الحرية مثلما دفعتم، فقد قدمتم من دمائكم وأموالكم مالم يقدمه غيركم من الأمم التي ابتليت بتسلط الأقوياء عليها..قدمت الأمم شبّانها فداء لأوطانها، أما أنتم فقدمتم الشبّان والكهول والشيوخ، وناهيكم بشيخ المجاهدين وإمام الشهداء عمر المختار، فضربتم الأمثال وملأتم التاريخ بالأعمال، وصبرتم في سبيل وطنكم على الجوع والعطش والعري والتشريد، ولم تهن لكم عزيمة ولا ضعف إيمان ولا تزعزعت عقيدة، ولم تخطئوا كما أخطأ غيركم في فهم الحقيقة الكاملة للحياة، وهي أن يحيا الإنسان كريماً أو يموت كريماً، وإن الحياة بلا حرية موت أفظع من الحياة!.
كذلك لم يبتل الله فيمن ابتلى من خلقه بمثل ما ابتلاكم به من استعمار حيواني شرِه- أذاقكم لباس الجوع، ولم يستطع أن يذيقكم عذاب الخوف، ولكنكم أذقتموه الهزائم التي سجلها التاريخ، وقاوم ضعفكم الذي يمده الإيمان - قوته التي يمدها الطغيان، وصدقتم ما عاهدتم الله عليه فمنك من قضى نحبه ومنكم من ينتظر وما بدلتم تبديلاً)) "الأثار 4/ 238".
الخاتمـــــــــة
"أُذكّر كُلَّ قارئ لهذا "البحث" أن ينصح لنفسه بحُسْن القراءة، وتمام التَّفَهُّم والتجرُّدِ من الإلف العلميّ، والتحرُّر من قيود التقليد، وأن يُقبل على القراءة وهو مستعدٌ لتغيير أيِّ اعتقادٍ سابقٍ دَلَّهُ الدليلُ على بُطلانه، لا أن يُقْبِل جازمًا بخطأ الكاتب، باحثًا عن العثرات، راغبًا في اكتشاف الزلات.
وأن يحرص على مخالفة سَنَنِ الذين في قلوبهم زيغ، فلا يَتَّبعُ المتشابهَ، بل يردُّ المتشابهَ إلى المُحْكَمِ. وعليه بعد ذلك من واجب إحسان النيّة، وحَمْل الكلام على أفضل مَحَامِله، وعلى الصواب ما أمكن= ما يأثم بعدم قيامه به.
فإن خالف أحدٌ هذه الأخلاق، فليعلم أنه أوّل مخذول، فالحق أبلج، والدّين محفوظ، فلن ينفعه أن يشنّع على الحق، ولا أن يسعى في تخريب علوم الدين.. ولا بأي حُجّة، ولو ركب كل مركب، فليُرحْ وليسترحْ!!!
أسأل الله تعالى لي وللقراء علمًا نافعًا، وعملاً صالحًا مُتَقبَّلاً، وخاتمةً حسنة."
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمّد، وعلى أله وصحبه أجمعين..
كتبه حامداً مصلياً..:
عبدالسلام الورفلي الليبي كان الله له
ـــــــــ
من مقدمة الأستاذ حاتم الشريف في كتابه "إجماع المحدثين"
[1] من كلمات الشيخ عبدالرحمن السديس إمام وخطيب المسجدالحرام
[2] التعالم للعلامة بكر أبو زيد
[3] من مقال "الليبييون مظلومون.." للشيخ الطريفي..
[4]من مقدمة البحاثة النبيه حاتم الشريف في كتابه "إجماع المحدثين" مع تصرف.
[6] تحريف النصوص للعلامة بكر أبو وزيد
[7] الجواب الصحيح 3/ لشيخ الإسلام ابن تيمية
[8] من مقال الشيخ الفاضل عبدالحق التركماني "القذافي والسلفية ضدان لا يجتمعان".
[9] من مقال أخي الشيخ عبدالله الطرابلسي "بين قتال الفتنة والقتال المشروع.
[10] الرؤية الشرعية في الأحداث الليبية لأخي الشيخ عبدالله الطرابلسي
[11] " أنظر "إعتبار مألات الأفعال واثرها الفقهي" تأليف،د: وليدبن عليّ الحسين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق